1-
في مواكب الاحتفال لا يجد صناع النصر الحقيقيون مكانا، يتوارون في الخلف ليتركوا صدارة المشهد لمن تابعوا المعارك عبر الشاشات، ولذلك لم أعرف اسمه ولا قصته سوى قبل أيام عندما قرأت عنه تقريرا مطولا في "المصري اليوم"، رغم أنه لو كان في بلد آخر لكتبت عن بطولاته الكتب وأُنتجت الأفلام.
هو الفدائي محمد محمد خليفة، الشهير بـ"شزام"، ربما تسمع هذا الاسم لأول مرة، لكنك بعد أن تعرف حكايته ستأسف كثيرا لأنك عرفت ذلك بعد وفاته بشهر واحد (توفي يوم 8 سبتمبر الماضي) وهو الذي عاش عمرا طويلا دون أن يلمس العرفان الذي يستحقه، لا من الدولة ولا من الناس، ولذلك قضى الأيام الأخيرة من حياته يرتدي بدلة عسكرية تحمل أوسمته التي حصل عليها، ويطوف شوارع وأحياء الإسماعيلية بالدراجة ليروي ذكرياته ومشاهداته في الحروب المختلفة والكثيرة التي خاضها.
"شزام" قصة سينمائية بامتياز، كل تفصيلة في حياته مهمة، وكل عام في عمره به حدث جلل، بداية من ولادته عام 1928 بقرية دنشواي، بعد 22 عاما من إعدام عمه في حادث دنشواي، انتقل إلى الإسماعيلية بعد وفاة أمه وزواج والده من سيدة أخرى، وعرف طريق النضال سريعا حين كان يتجول بشارع السلطان حسين وشاهد جنديين بريطانيين يحاولان
اغتصاب فلاحة، فقتلهما واستولى على أسلحتهما ولاذ بالفرار، كان عمره وقتها 14 عاما ومن وقتها لم يترك حربا إلا خاضها ولا طريقا للنضال إلا سلكه.
بخلاف قتاله ضد الإنجليز، عاصر "شزام" حروب 56 و67 و73 والاستنزاف، وشارك في المعارك بغزة عامي 53 و54، ويحمل شهادات تؤكد مشاركته في معارك البياضة وخان يونس، وبعد النكسة تولى إعادة ترتيب وتدريب وحدات الجيش بطلب من قيادات القوات المسلحة، وشارك في عملية نسف الموقع 6 انتقاما لاستشهاد عبد المنعم رياض، وكان المدني الوحيد الذي عبر مع القوات المسلحة في حرب أكتوبر.
هذه قصة ملهمة لمن يقولون إنه لا يوجد ورق مناسب لإنتاج فيلم عن حرب أكتوبر، قصة رجل ما سمع دعوة للنضال إلا وترك زوجته وأولاده ولباها، غنية بالتفاصيل والبطولات والمواقف الإنسانية وفي وجود نجله عبد الله الذي سمع من والده كل حكاياته ويسعى الآن لنشر كتاب عنها يمكن الاستزادة بتفاصيل أكثر للخروج بفيلم ملحمي يمزج ما هو وطني بما هو إنساني، ويحول حرب أكتوبر وشقيقاتها إلى بشر من لحم ودم، بدلا من الإفلاس الذي وصل بنا لعرض أوبريت ديني في احتفالات 6 أكتوبر!.
2-
بينما كانت مقصورة الإحتفال مليئة بقيادات عليا كانوا في المدرسة أثناء الحرب، وبينما تنهمر المكافآت على الجميع بمناسبة حرب لم يحضروها، كان عبد المعطي عبد الرحمن أحد أبطال سلاح المشاة في أكتوبر يناشد محافظ البحر الأحمر منحه أحد شقق المحافظة، لأن الشقة الإيجار التي يقيم بها ضاقت بأسرته، وكان سليمان أحمد سليمان الذي قاتل في الاستنزاف وشهد العبور يقف أمام وزارة التضامن لتدفع له 9 آلاف جنيه إيجار منزله وفواتير الكهرباء بعدما تخلف عن دفعهما لشهور بسبب ضيق اليد، وبعد محاولات كثيرة وافقت الوزارة على دفع
فواتير الكهرباء فقط ليبقى الإيجار المتأخر كما هو!.
"يللا نكرمهم" هو اسم الصفحة التي دشنها ناشطون على موقع فيسبوك للتواصل مع من بقي على قيد الحياة من أبطال حرب أكتوبر وتكريمهم بطريقة تليق بهم بعدما عانوا الإهمال لعقود، تقول الأرقام إن إجمالي من تواصل مع الصفحة حوالي 5000 مقاتل على قيد الحياة، وهو عدد قليل كفيل يسهل على الدولة التواصل معهم ومعرفة أحوالهم وتوفير حياة كريمة لهم وتعويضهم عن 42 عاما من الإهمال.
تنظم
روسيا سنويا حفل تكريم لمقاتلي الحرب العالمية الذين مازالوا على قيد الحياة، وتقدم لهم امتيازات مادية ومعنوية لمشاركتهم في هذا النصر، وحتى ألمانيا التي منيت بهزيمة ساحقة في الحرب لا تكرم الأحياء الذين شاركوا فيها فقط، لكنها تكرم أيضا رفات الموتى، في مصر لولا شباب قاموا بجهد تطوعي جمعوا فيه أبطال حرب أكتوبر ما عرف أحد الجندي صاحب الصورة الأشهر في حرب أكتوبر، والذي كان يقف على خط بارليف رافعا علامة النصر، وهو بالمناسبة قضى 30 عاما من عمره في الكويت بعد الحرب لأنه لم يجد فرصة عمل مناسبة في بلده التي حمل بندقيته على كتفه وروحه على كفه دفاعا عنها!.
عزيزي المصدوم من قسوة الدولة مع شبابها، ها هو تعاملها مع أبطالها الذين حرروا ثلث أرضها بدمائهم، فلا تنتظر أن تعاملك أفضل منهم.
العيب ليس فيك ولا فيهم.
العيب في
النظام.