عقد
معهد واشنطن لدراسات الشرق الأدنى جلسة نقاشية، مطلع تشرين الثاني/ أكتوبر الجاري، حول التدخل العسكري الروسي في
سوريا، ناقش فيه خبراء المعهد تداعيات وظروف هذا التدخل محليا وإقليميا وعالميا، من مختلف الجوانب.
التغيير الديمغرافي
وحول علاقة التدخل الروسي بالساحل، معقل العلويين في سوريا، أوضح الباحث فابريس بالونش، الأستاذ في جامعة ليون الفرنسية، أن "هدف
روسيا في سوريا في حماية الساحل الاستراتيجي للبلاد على البحر المتوسط"، مستدركا أن صورة المنطقة المحيطة كمعقل للعلويين ليست دقيقة بالكامل؛ لأنّ ديموغرافيّات البلاد تتغيّر بسرعة، بحسب تعبيره.
وأشار بالونش إلى أن المؤيدين العلويين، جوهر نظام البعث على مر السنين، مالوا عبر السنوات لإنجاب أعداد أقل من الأطفال مقارنة بالسكان السنة، مع إغناء سياسات التنمية الحكومية، إذ كانوا يشكلون 10 بالمئة فقط من السكان، ما دفع
بشار الأسد إلى دفع ملايين السنّة خارج البلاد لإعادة التوازن إلى التركيبة السكانية لصالحه.
وتابع بالونش بالقول بأن "حركة النازحين داخل سوريا كانت إشكاليّة أكبر بالنسبة إليه"، موضحا أن "تدفّق 200 ألف شخص، معظمهم من اللاجئين السنّة، إلى محافظة اللاذقية، على النظام أن يقلق بشأن أمن هذه المنطقة. وفي حين سيرحّب العلويون والمسيحيون بالحماية الروسية، يقلق النظام من أن عناصر سرّية من المتمردين قد اندسّت بين اللاجئين، وتنتظر الفرصة المواتية للهجوم على قوّاته. فبهذه الطريقة بالذات سقطت تدمر"، بحسب قوله.
وأشار بالونش إلى أن هناك حوادث سابقة دفعت النظام لتأمين حماية للعلويين، "ففي آب/ أغسطس 2013، قتلت قوّات المعارضة أكثر من 150 شخصا في بلدة عرامو الجبلية شرق اللاذقية، بينما لا يزال 200 شخص آخر محتجزين رهائن"، مشيرا إلى أن تكرار مثل هذه الحوادث سيؤدي بكثير من العلويين لترك مناصب حكومية وعسكرية رئيسية لحماية قُراهم، فيما إذا سيطر الثوّار على اللاذقية على وجه الخصوص، فذلك قد يحفز مثل هذا النزوح، ما دفع الأسد لتشكيل مليشيا جديدة لحماية المناطق الساحلية، كما أنها ستستفيد كثيرا من تدفّق القوّات الروسيّة.
وحول تعامل
بوتين مع المناطق الساحلية، اعتبر الباحث الفرنسي أن الرئيس الروسي فلاديمير بوتين يتعامل بقدر من التحفظ والحذر مع صراع مشابه لأفغانستان، ناهيك عن العوائق الديموغرافية المرتبطة باستعادة السيطرة على البلاد برمّتها، ما جعل الهدف الروسي الأكثر ترجيحا بإنشاء دولة ساحلية صغيرة شبيهة بدويلة أبخازيا على ساحل جورجيا على البحر الأسود.
وفي هذه الحالة، قد تطلب موسكو من النظام الحفاظ على سيطرته على الأقلّ على قسم من مدينة حلب الكبيرة. ومثل هذه الدولة الصغيرة من المفترض أنّ تضمن ولوج روسيا إلى قاعدة جوّية وبحريّة موسّعة في شرق البحر المتوسط. وتنظر موسكو إلى الأسد أيضا على أنّه العنصر الحيوي للنظام، وفي غياب عرض مغر من الغرب، لن تغيّر هذا الموقف.
أما بالنسبة للمناطق الأخرى غير الساحلية المهمة للنظام، رأى بالونش أن حسابات روسيا تتضمن حماية إيران وحزب الله لدمشق وحمص، إذ إن طهران وقوّتها الرئيسية الموكلة تقدّران هاتين المدينتين لقربهما من هضبة الجولان ولبنان، إلّا أنّهما قد تدخّلتا بشكل أقل لحماية الساحل وحلب.
الأهداف الروسية الإقليمية والدولية
بدورها، ناقشت الباحثة آنا بورشفسكايا، المختصة بالسياسة الروسية تجاه الشرق الأوسط، أهداف التدخل الروسي في سوريا، على الصعيدين الإقليمي والدولي.
ورأت الباحثة أن بوتين يسعى من خلال تدخله إلى تحويل الانتباه عن الصراع الأوكراني، وإبراز موسكو على أنّها شريك متساو في محاربة الإرهاب العابر للحدود، ووضع روسيا كقوّة عالمية موازية للولايات المتحدة. كما يأمل بإيصال البحريّة الروسية إلى أبعد من البحر الأسود من خلال إرساء وجود كبير في سوريا وإجراء تمارين مثل التمرين الذي جرى مؤخرا مع مصر- الأوّل من نوعه منذ سنوات.
أما دوافع روسيا لهذا التدخل، بحسب بورشفسكايا، فهي اقتناع صنّاع القرار الروس بأنّ الولايات المتحدة تقف وراء مشاكل العالم، وتعمل بشكل دوري على تنظيم الانقلابات العسكرية، وقد دفعهم هذا التفكير إلى النظر إلى "الربيع العربي" وكأنّه تكرار آخر لـ"الثورات الملوّنة" في بلدان الاتّحاد السوفياتي سابقا.
كما جدّدت الثورات الشرق أوسطيّة قلق بوتين حول مركزه الخاص في السلطة، إذ رأى بوتين من خلال مراقبة الانهيار السوفياتي في ألمانيا الشرقية والثورات الملوّنة هو أنّ المظاهرات قد تتحوّل بسرعة إلى تغيير النظام، كما أن تعزيز الشعور الوطني والولاء للعَلَم قد ساعده على الصعيد السياسي، كما يمكنه من خلال اتخاذه خطوات عسكريّة وسياسية التعويض عن نقاط الضعف الداخلية والدولية.
من جانب آخر، أوضحت بورشفسكايا أن غياب الإرادة السياسية في الغرب مكّن بوتين من اختبار المجتمع الدولي وتحدّيه دون مقاومة تُذكر، إذ تمثل أفعاله الأخيرة مقاربة المجموع الصفري تجاه الدبلوماسية، ويأمل اليوم التأثير على صنع القرار الأمريكي من خلال التزام سياسي وعسكري أكثر جرأة مع الأسد، كما قد تستطيع روسيا أيضا تحويل سوريا إلى صراع "مجمّد" كما في أبخازيا، ما سيسمح لموسكو بمواصلة تدخّلها هناك بتكلفة منخفضة.
روسيا والأسد
وحول النظرة الروسية تجاه رئيس النظام السوري بشار الأسد، ناقش الباحث أندرو تابلر، الخبير بالشأن السوري لدى معهد واشنطن، علاقة روسيا بالأسد، وأثر التدخل على حسابات كل منهما.
وأشار تابلر إلى أن هناك أقطاب سياسة مختلفة في روسيا تنظر إلى سوريا بطرق متباينة، ومن أبرز المواقف ذلك الذي تتخذه وزارة الخارجية برئاسة سيرغي لافروف، والمتعلقة بتصريحات توحي بأنّ روسيا ليست مرتبطة ارتباطا وثيقا بالأسد، وهي مستعدّة للتفاوض.
واستدرك تابلر بأن هناك سردا روسيا آخر يؤكّد أنّ الولايات المتحدة تحرّك على قيام ثورات لتمزّق صلب نسيج الدول، ووفقا لهذا التفكير، تخلّف هذه الثورات حكومات غير شرعيّة أو تؤدي إلى تفتيت الدول؛ لتحوّلها إلى ملاذات آمنة للإرهاب، الأمر الذي يجبر روسيا على تأمين دعم عسكري لكي تساعد الحكومات ذات السيادة على الخروج من هذه الأزمات، ومن هذا المنظار، يرى بوتين نظام الأسد شرعيّا لكنّه ينظر إلى الحكومة في كييف بأنّها غير شرعيّة كونها تسلّمت السلطة في أعقاب انقلاب.
واعتبر تابلر أنه لوجهة النظر هذه تأثيرا كبيرا على سياسة موسكو في سوريا وعلى حسابات نظام الأسد، موضحا أنه بوجود دعم روسي متزايد، يخضع الأسد لضغط أقلّ لاتّخاذ أي قرارات صعبة، وليس أقلها هو مغادرة البلاد، وبالتالي من غير المحتمل أن يُظهر أي مرونة جديدة.
ومن جهّتهم، يعلم الروس أنّه سيكون من الصعب جدّا سحب وجودهم العسكري المتزايد في سوريا دون انعكاسات سلبيّة على موسكو، لذا من المستبعد أن يتراجعوا في هذه المرحلة.
وحول تقسيم سوريا، اعتبر تابلر أنه من المرجح أن يضمن تدخّل بوتين رؤية سوريا مقسّمة في المستقبل المنظور، إن لم يكن بشكل دائم، إذ لا تنوي كل من روسيا وإيران استعادة معظم الأراضي التي وقعت تحت سيطرة جماعات المعارضة. وقد تقبل موسكو بتقسيم سوريا بحكم الأمر الواقع أو بشكل شرعي إذا سمح لها هذا التقسيم بالحفاظ على مصالحها في المنطقة الغربية الاستراتيجية للبلاد.
الأهداف العسكرية للتدخل الروسي
وناقش الباحث جيفري وايت، الخبير في الشؤون العسكري والأمنية في معهد واشنطن، الأسلحة المستخدمة في التدخل الروس، والأهداف العسكرية التي تسعى لها روسيا من خلال تدخلها في سوريا.
وأشار الباحث إلى أن طبيعة التعزيزات الأخيرة تظهر أن هدف روسيا هو دعم نظام الأسد عسكريّا ضدّ أعدائه.
وفصل وايت الأسلحة العسكرية المستخدمة في سوريا، قائلا إن "فرقة روسيا الجوّية تتكون من 28 طائرة مقاتلة/هجومية على الأقلّ، بالإضافة إلى طوّافات هجوميّة وأخرى للنقل، وطائرات استطلاع، وطائرة "IL-20 Coot" التجسسية، وربما مقرّ قيادة مجوقل"، في حين تضم القوّات الروسيّة البّرية عناصر من الفرقة 810 من مشاة البحرية، وعناصر محتملة من فرقة مشاة البحرية الـ363، ودبّابات من نوع "T-90"، وناقلات جنود مدرّعة من نوع "BTR-80"، واثنين من بطاريات مدفعية الميدان، وعدة آلاف من الجنود، وصواريخ أرض- جوّ من نوع "SA-22 Greyhound"، وهيكل قيادة وسيطرة مفترض.
أما المهمات المتوقعة من هذه المعدات العسكرية فهي تشمل: عمليات استطلاع، ودعم جوّي وثيق، واعتراض للهجوم، وقيادة وسيطرة مجوقلتَين، في حين تشمل الأدوار المحتملة للقوّات البرّية الروسيّة تقديم المشورة للوحدات السوريّة والاندماج فيها، بالإضافة إلى مختلف عمليّات الدفاع، والهجوم، والأمن، والعمليّات الخاصّة.
وأشار الباحث إلى أن الصراع السوري يبقى "حرب استنزاف"، موضحا أن القوّات الروسيّة تستطيع تغيير ديناميات الاستنزاف لصالح النظام واستعادة قدرات الأسد الهجومية المتضائلة، كما أنها تستطيع زيادة فعاليّة القتال في صفوف القوّات السوريّة من خلال تحسين مصادر الاستخبارات، والمعنويّات، والقدرة على استعادة الأراضي والحفاظ عليها.
وأوضح الباحث أنه "وبالرغم من أنّ الهيكليّة والحجم الحاليين للقوّات الروسيّة، لن يسمح لها بدحر الثوّار بشكل جماعي أو باسترجاع مساحات واسعة من الأراضي، إلا أنها تستطيع تأمين ميزة مهمة في ساحات قتال معيّنة مثل حلب أو حقول الغاز في محافظة حمص الشرقية".
وفي حين أعرب البعض عن مخاوف من تكرار روسيا لتجربتها الأفغانية، تدرك روسيا تماما هذا الخطر، ومن غير الواضح في الوقت الحالي، ما إذا كان عدد كبير من الجهاديين سيواجهون القوّات الروسية.
أما على الصعيد العسكري الخارجي، فقد أوضح وايت أن تدخّل روسيا يحدّ من نشاطات دول أخرى في سوريا، "فعلى سبيل المثال، قد تُكبَح العمليّات الجوّية الأمريكية في الشمال ما لم ينسّق الجيش الأمريكي مع الطيران الروسي للحؤول دون احتكاك طائرات الجانبين فوق اللاذقية".
وبالمثل، قد تحارب القوّات الروسيّة البرّية جماعات المعارضة السوريّة التي تدعمها الولايات المتحدة، ومن غير الواضح كيف سيكون ردّ واشنطن المحتمل على مثل هذه الاشتباكات.
كما أوضح وايت أن الوجود الروسي الجوّي في اللاذقية قد يحول دون قيام إسرائيل بشن ضرباتها في تلك المنطقة ويعقّد النشاط الإسرائيلي حول هضبة الجولان، بحسب تعبيره.