"القصف الجوي لن يحسم أي معركة إن لم يحسمه التدخل البرّي على الأرض".. هي مقولة يرددها الكثيرُ من الخبراء والمحللين العسكريين، بل وأصبح يعرفها ويحفظها عامة النّاس.
الحديث عن هذه المقولة يقودنا إلى التساؤل بجدية عن جدوى القصف الجوّي الروسي الذي بدأ في مناطق محدودة ثم ما لبث يتوسع إلى مناطق أخرى في
سوريا، هو سؤال بريء نطرحه على أصحاب القرار في دمشق حينما استدعوا موسكو لقصف الأراضي السورية.
جدوى القصف..
التحالف الدّولي بقيادة الولايات المتحدة الأمريكية قد بدأ سابقا باستهداف معاقل تنظيم الدولة "داعش" قبل
روسيا، لكنّه وإلى حد الآن لم يمنع التنظيم من التقدم والسيطرة على مناطق استراتيجية من قوات النظام والمعارضة على حد سواء، وهذا ما سيقودنا إلى نتيجة حتمية وهي فشل الضّربات الروسية في تغيير المُعادلة المحفورة على الأراضي السورية منذ عدة سنوات.
حسب المحللين والعارفين بالشأن السوري فإنّ تدخل روسيا بهذا الشكل هو محاولة أخيرة لمساعدة الحكومة السورية في دمشق وربما تأخير قدر المُستطاع ما هو حتمي، لكن موسكو لا يمكنها أن تدخل في مثل هذه المغامرة من دون مقابل، وهي أدرى بأن كل من حاول التدخل لمساعدة الحكومة السورية قد فشل -ولو نسبيا- والحديث هنا عن إيران وحزب الله اللبناني، فإذا نجحت الطائرات الروسية في القضاء على أعداء دمشق فأكيد هناك اتفاقيات وقعت بين الطرفين، البعض منها ظهر في شهر أغسطس/آب سنة 2012، أما بقية التفاهمات فستظهر إلى العلن مع مرور الوقت، أما إذا انتصرت المعارضة فتسعى موسكو لفرض نفسها لكي تحتفظ بموطئ قدم لها على الأقل في الساحل السوري، خاصة بعد المحاولات المتكررة في استثناء روسيا من أي حل يوصل الأزمة السورية إلى نهايتها.
الأمور التي ساعدت التدخل الروسي..
الأزمة السورية قاربت على إنهاء السنة الخامسة منذ بدايتها، والفترة الأخيرة هي أطول مرحلة لم تتحدث الدول الفاعلة على خطط أو اقتراحات تبعث ببصيص من الأمل إلى كل المتضررين من هذه الأزمة سواء في سوريا أو خارجها، وبذلك تُرك الأمر إلى المعارك في الميدان لكي تقرر مصير العباد والبلاد، وهذا ما ترك فراغا سياسيا ودبلوماسيا كبيرين بل لم نعد نسمع اسم المبعوث الدولي إلى سوريا ديميستورا يذكر في الأخبار، الأمر الذي جعل موسكو تستغل هذا الفراغ والرمي بكل ثقلها الدبلوماسي والعسكري من أجل إنقاذ ما يمكن إنقاذه.
التدخل الروسي لا شك فاجأ كثيرين رغم انه كان متوقعا كلما طال أمد الأزمة، لكن الأمر المفاجئ بشكل كبير فهو ردة فعل واشنطن التي كانت باهتة، وأقصى ما فعلته هو دعوة العسكريين الروس للتشاور وليس لوقف الطلعات الجوية، وهنا يمكننا ذكر سببن عن قبول الإدارة الأمريكية بامتعاض للواقع الجديد، الأول هو التغطية على الإخفاق الأمريكي غير المسبوق في إدارة الأزمة السورية دبلوماسيا وعسكريا خاصة وأن الانتخابات الرئاسية الأمريكية أصبحت قريبة، أما السبب الثاني فهو العلم المسبق لدى واشنطن أن هذه الضربات الجوية لن تنفع في شيء وهي التي جربت حظها من قبل في أفغانستان والعراق ودول أخرى، كما أن موسكو فشلت في حسم معاركها في الشيشان باستعمال الغطاء الجوي، الأمر الذي سيضعف الموقف الروسي في المحافل الدولية بل حتى داخليا حينما يبدأ الروس يتساءلون عن جدوى التدخل العسكري لبلادهم في سوريا، وهنا سترمي الإدارة الأمريكية -الحالية أو الجديدة- بكل ثقلها السياسي من أجل فرض حلولها على موسكو.
كالعادة.. غاب العرب
للأسف الشديد غاب العرب مرة أخرى عن تقرير مصير قضية تهمهم بشكل مباشر، فروسيا لم تعرهم أي اهتمام ولم تتشاور مع أي دولة من دول جامعة الدول العربية، بل كان هدفها دائما إرضاء طرفين فقط، الأول ذكرناه فيما سبق والمتمثل في الولايات المتحدة، أما الثاني فهو الاحتلال الإسرائيلي وهو ما تم خلال زيارة رئيس الحكومة بنيامين نتنياهو إلى موسكو قُبيل بدء التدخل الروسي في سوريا، حيث بدا كما لو أنه اتفاق بين الرئيس فلادمير بوتين وضيفه الإسرائيلي، فالنسبة لهذا الأخير، لا بأس أن تمتلئ الأجواء السورية بالطائرات لقصف وتدمير ما تبقى من البنية التحية وإطباق البيوت على رأس ساكنيها، للأسف الشديد نعيش لنؤرخ مرة أخرى ضعف وهوان الدول العربية في التعامل مع قضية عربية داخلية كان الأجدى والأجدر حلها في القاهرة بدل تقاذفها في المحافل الدولية، وأكثر ما نخشاه هو تحذو الأزمة السورية حذو القضية الفلسطينية.
الشعب السوري يدفع الثمن
روسيا بتدخلها جوا في سوريا إنما تجرب حظها علها تحقق تغييرا في الميدان حتى لو كان طفيفا، فالمعارضة بأشكالها وأنواعها قد حققت انتصارات كثيرة وسيطرت على مناطق استراتيجية، أما الحكومة السورية فقد أُنهكت قواتها بشكل واضح ولم تعد قادرة على استرجاع أي منطقة وقعت بأيدي المعارضة.
النظام جرب، والتحالف الدولي جرب، وجاء الدور على روسيا، ليبقى المتضرر الوحيد هو الشعب السوري الذي ضحى بمئات الآلاف من القتلى وآلاف الجرحى والمعتقلين والمختطفين والمفقودين وملايين اللاجئين داخل البلاد وفي دول الجوار، بل واضطروا إلى الزحف نحو دول الاتحاد الأوروبي بعدما تيقنوا من استحالة التوصل إلى حل سياسي على الأقل في القريب المنظور.
الشعب السوري وحده من سيتحمل مرة أخرى تكاليف التدخل الروسي سواء في المناطق التي يسيطر عليها تنظيم داعش أو غيرها من المناطق التي تقع في أيدي جبهة النصرة أو تشكيلات الجيش الحر المختلفة.
في الأخير، يمكن القول أنه مهما اختلفت الآراء والتحليلات تبقى النتيجة الحتمية والأكيدة هي أن التدخل الروسي قد نقل الأزمة السورية إلى مرحلة جديدة من التعقيد، وابتعدت أكثر عن الحل السياسي.
وفي انتظار الوصول إلى الحل الدبلوماسي المضيّع يبقى التساؤل المشروع هو.. هل تنجح الطائرات الروسية في إيقاف زحف المعارضة نحو الساحل السوري ؟ بعدما فشلت الطائرات السورية في تحقيق هذا الهدف لعدة سنوات رغم القوة التدميرية الهائلة التي استعملتها حيث كان أبرز عناوينها البراميل المتفجرة.