بأثر رجعي وبعد خمس سنوات يصيب توصيف الرئيس السوري بشار الأسد للحالة السورية كبد الحقيقة. الرجل ابتدع مصطلح المؤامرة الكونية في توصيفه للثورة السورية، التي انتصرت لمنظومة حقوق وحريات لطالما افتقدت في ظل حكم عائلته، ثم تطورت لتطالب بعدها برحيله قبل أن يتم حشره في شريط ضيق من الأرض يحده الثوار شرقا وقطعة من لبنان والبحر غربا.
المؤامرة الكونية التي طالما كررها الأسد كانت في بادئ الأمر داعمة لنظام حكمه، لتتحول إلى الآمر الناهي لكل ما يصدر منه عمليا، لتصبح في نهاية الأمر احتلالا أجنبيا مباشرا -بطلب منه أو بغير طلب منه شخصيا-، فالقيادة هنا روسية-إيرانية مدعومة بميليشيات شيعية متنوعة السحنات والأعراق من وسط وغرب وجنوب آسيا، وبالطبع برعاية المجتمع الدولي المعزز بإسرائيل وليكودها العربي. ما لم يذكره الرجل أن اصطفاف المؤامرة الكونية لصالحه باتت عبئا عليه، وربما المعجل بنهايته، لأن الاحتلال الأجنبي يقضي عمليا على الثنائية التي تطعم بقاء نظامه وقوامها خصمان لدودان لثورات العرب:
أولاهما الدولة العربية الوظيفية بنسخها القومية والطائفية والقبلية والعصابية على قاعدة سايكس-بيكو، وقرينتها الدولة الوظيفية المصنوعة غربيا بثوب إيديولوجي -كداعش-، ككيانات تمثل الاستقلال العربي الزائف عن الاستعمار الغربي، مع اقتصار السقف على دور الوكيل أو مقاول الباطن لحساب الأجنبي. لذا فسقوط منظومة سايكس-بيكو يعني عودة حميدة لحضن المستعمر القديم والجديد بعيدا عن رتوش السيادة الوطنية واستقلالية القرار.
وثانيهما: الثورة المضادة لربيع العرب كحربة ثانية للأجنبي تخطيطا وتمويلا وغطاء وتنفيذا، وهي الثورة التي تبدو بعد حسم جولتها الثانية بوجه ثورات الربيع العربي لصالحها، مرشحة للخروج التدريجي بصحبة دولنا الوظيفية من المشهد وفق القاعدة الهندسية التي تنص على أنه: "عند عجز مقاول الباطن عن القيام بمهامه حسب العقد، يتولى المقاول الرئيسي إتمام مهامه على حساب مقاول الباطن، وهو ما ينسحب على عجز الدول الوظيفية والثورة المضادة التي صارت عبئا على الاستعمار نفسه في أغلب الملفات، ولن ينفعها مزاودتها على مستعمرها في إعطائه فوق ما يطلب، ولا شهادات حسن السلوك الصادرة حتى قبل الاستقلال، وتتضمن محاربة الخلافة العثمانية بقوات عربية واحتلال القدس بقوات مصرية وكلاهما تحت قيادة بريطانية، وتسليم جيوش الجامعة العربية أرض وإنسان ومقاومة فلسطين للعصابات الصهيونية.
ربما نجحت الثورة المضادة -بشقها العربي الرسمي و"الميليشياوي" غير الرسمي- في إطالة زمن دولنا الوظيفية حينا، لكنها فشلت في كسر إرادة الشريحة الواعية من شعوبنا، ليبادر الأجنبي بخيار الاحتلال تغطية لجوانب قصور امتد ليطال الثورة المضادة التي استنفذت أغراضها هي الأخرى، إذ لم يعد بالإمكان تسويقها كممثل للوسطية الإسلامية والاعتدال العربي في ظل احتلال أجنبي مباشر، يظهر وجهها الحقيقي كقالب خياني أشبه بابن العلقمي.
ولمن يجادل أيضا في إمكانية استمرار الثورة المضادة -بأدوار أخرى- نقول إنه طالما كان وجودها مرتبطا باستمرار الدولة العربية الوظيفية، فإن سقوط إحداهما يعني سقوط الأخرى، فارتباطهما وجودي يعادل في قوته الارتباط الوجودي بين إسرائيل وكيانات سايكس-بيكو نفسها.
وما تفاوض فصائل من الثورة السورية مع إيران على وقف إطلاق النار في بعض المدن السورية، يوازيه تفاوض بعض عناصر المعارضة الديكورية السورية مع روسيا حول مستقبل سوريا سوى شواهد على انتهاء عصر الدولة الوظيفية، التي لم تبارح دور حكومة فيشي تحت الاحتلال النازي لفرنسا، ولا يهم هنا إن كان المحتل الأجنبي الروسي الإيراني المباشر -في الحالة السورية- ضحية توريط من محتل أمريكي غير مباشر، فالهدف واحد عنوانه استنقاذ إرث استعماري متأرجح ببن عبارتين، واحدة للجنرال البريطاني أللنبي الشهيرة مع دخوله القدس عام 1918: "الآن انتهت الحروب الصليبية"، وأخرى للجنرال الفرنسي (غورو) يوم احتل دمشق إثر معركة ميسلون عام 1920 ،راكلا بقدمه واكزا قبر صلاح الدين بسيفه متشفيا: "قم يا صلاح الدين لقد عُدنا أخيرا"... صدقيتهما الوحيدة تململ جيل صلاح الدين أخيرا.
ما لم يقله بشار الأسد، وقالته -نيابة عنه- مؤامرته الكونية، أن ما يدور في منطقتنا اليوم حرب كونية، أقرب لحرب عالمية ثالثة هي ضد "الإرهاب الإسلامي" على حد وصف الرئيس الإيطالي الذي لم يصرح بكونها مقدمة صريحة لمعركة مجدو (هارمجيدون). المعلن فيها ضرب هدف مصطنع هو داعش، وحقيقتها ضرب السنّة الذين لم تلجم قبضة دولتي الأسد والبغدادي تطلعهم نحو الحرية، كورثة محتملين لصلاح الدين يتململ أخيرا.