كتب محمد محفوظ: لعلنا لا نضيف إلى علم القارئ حينما نقول إن الدولة كمؤسسة هي من منجزات الإنسان عبر التاريخ، بوصفها من الضرورات السياسية والاجتماعية التي تعنى بانتظام حياة ومصالح الجميع في إطار بقعة جغرافية محددة. فالدولة هي المؤسسة الأم التي تعنى بتنظيم مصالح الناس ومعاشهم، ولولا هذه المؤسسة الأم، لضاعت الكثير من الحقوق، ولدخل الناس بفعل تضاد وتناقص مصالحهم في صدام قد لا ينتهي. فالدولة هي المؤسسة الكبرى التي تنظم مصالح الناس، وهي القادرة وحدها على فض الاشتباك بين الناس حينما تتعارض مصالحهم. والدولة كممارسة وسلوك بحاجة باستمرار إلى إصلاح وتطوير.
ولعل من المشكلات الكبرى التي برزت مع موجة ما سمي بالربيع العربي، هو وجود إرادة دولية عبرت عنها بعض الدول الكبرى مفادها إسقاط وتدمير بعض الدول في العالم العربي المعاصر. فتغير النظام السياسي في العراق في زمن صدام حسين، أضحى ضرورة وطنية وقومية في آن. فمن مصلحة غالبية الشعب العراقي تغيير نظامه السياسي، كما أن من مصلحة الكثير من الدول العربية الأخرى تغيير النظام السياسي في العراق، الذي خرق الكثير من الحرمات في الدائرة العربية.
ولكن الحاجة إلى تغيير النظام السياسي، لا يعني بأي شكل من الأشكال تدمير الدولة العراقية وإسقاط كل أسباب وعوامل وجودها.
ولعل من أكبر الأخطاء الكبرى التي تعد خطيئة تاريخية وإستراتيجية كبرى التي ارتكبتها الإدارة الأميركية في الملف العراقي، هو سعي الأميركي لأغراض تتجاوز المصلحة العراقية ومرتبطة بشكل مباشر بالرؤية الأميركية الاستراتيجية للعراق بعد نظام صدام حسين. وقد تجسد هذا الغرض في تدمير الدولة العراقية وتسريح الجيش العراقي وإسقاط كل المؤسسات والدوائر التي تعكس وجود دولة مركزية واحدة للعراق بكل تنوعه وتعدد أطياف شعبه. فالإدارة الأميركية لم تكتف بإسقاط النظام السياسي في العراق، وإنما استفادت من الغطاء لتدمير الدولة العراقية. بحيث برزت كل تناقضات الشعب العراقي مع غياب وتدمير تام للدولة القادرة على ضبط الجميع وصيانة مصالح الجميع. ولعل الكثير من التداعيات السلبية التي برزت في الساحة العراقية تعود في أغلبها إلى الخطوة الأميركية الخطيرة التي أقدمت عليها بتدمير الدولة العراقية في ظل شبه غياب لأي إدارة عراقية رافضة لهذه الخطوة.
وللأسف الشديد تجربة العراق، تكررت في التجربة الليبية، مما جعل كل التناقضات في الشعب الليبي تبرز على شكل صراعات مناطقية وجهوية وقبائلية.
وأمام هذه التجارب الخطيرة على أمن المجتمعات واستقرارها العميق من الضروري بيان النقاط التالية:
1- من الضرورة التفريق بين السلطة والدولة وان السعي إلى إصلاح أوضاع السلطة السياسية ينبغي ألا يقود أي أحد إلى القبول بتدمير الدولة. فالسلطة تعالج أمراضها ومشاكلها، وتطور هياكلها ومؤسساتها، ولكن مهما كانت سيئات السلطة، ينبغي أن تحذر كل الشعوب العربية من سعي بعض الأطراف الدولية وعلى رأسها الولايات المتحدة الأميركية لإشاعة الفوضى وإعادة بناء الدولة بمقاييس الهويات الفرعية الموجودة في هذا المجتمع أو ذاك. ولعل بعض مؤشرات هذه الرغبة الإدارية الأميركية بدأت بالبروز في الملف السوري.
نحن نعتبر الدولة كمؤسسات وهياكل هي من منجزات الشعوب العربية المعاصرة، ومهما كانت الإخفاقات السياسية، فإنها لا تبرر أي سعي لتدمير مؤسسة الدولة. لأن تدمير مؤسسة الدولة سيدخل جميع الهويات الفرعية في أتون التنافس الصارخ بدون وجود أي مؤسسة عليا قادرة على ضبط هذه الصراعات أو التناقضات. فحماية مؤسسة الدولة من الضرورات الوطنية والقومية في كل المناطق العربية. وانه مهما كانت التناقضات بين قوى المعارضة في أي دولة عربية وبين السلطات السياسية، فإن هذه التناقضات لا تعالج بتدمير الدولة. ولنا في التجربة العراقية والليبية خير مثال. فحينما تم تدمير الدولة كمؤسسات عليا، دخلت شعوب هذه الدولة في تناقضات وصراعات لن تنتهي إلا بإعادة بناء الدولة بشكل صحيح وسريع في آن.
2- إن طموح الشعوب العربية في الإصلاح والتغيير واستبدال النخب السياسية، لا يبرر لأي قوة عربية استدعاءها للأطراف الدولية لتدمير الدولة المركزية في هذه البقعة العربية أو تلك. وإن الشوق التاريخي إلى الإصلاح، لا يترجم بتدمير الدولة؛ لأن تدمير مؤسسات الدولة يعني تنمية كل الفوارق النوعية والكمية بين تعبيرات الشعب المختلفة. وتدمير الجزء الأساسي من التاريخ المعاصر لهذه الشعوب والمجتمعات العربية.
فمهما كانت سيئات السلطات، إلا أن هذه السيئات لا تبرر تدمير الدولة. فلنحافظ جميعاً على دولنا. والدولة كمؤسسة بأخطائها أفضل بكثير على المستويات السياسية والاجتماعية من اللا دولة. لأن اللا دولة يعني الفوضى التامة مع وجود تنافسات وصراعات حقيقية بين تعبيرات ومكونات المجتمع والوطن الواحد.
وخلاصة القول:إنه لا مبررات سياسية وقانونية وإستراتيجية لتدمير الدولة في أي بقعة جغرافية من العالم العربي. وإن السماح بتدمير الدولة، يعني السماح بتدمير كل أسس العيش المشترك وانتظام مصالح الجميع.
لهذا كله تعالوا نحافظ على دولنا ونسعى إلى إصلاح أوضاعنا السياسية بعيداً عن نزعات إسقاط الدول وتدمير الجيوش والمؤسسات الكبرى التي تنظم معاش ومصالح الجميع.