أخفى
السيسي في نفسه، ما الله مبديه، فبعد لف ودوران ولت وفت، وتأجيل لانتخابات
البرلمان، كشف عن السر الذي لا يجعله مستريحا لإجراء هذه
الانتخابات ويتمثل في
الدستور، الذي قال إن من وضعوه هم "حسنُ النوايا"، والدول لا تقام بـ "النوايا الحسنة"!.
فالسيسي يعلم أن الصلاحيات الممنوحة للبرلمان ولرئيس الحكومة كبيرة، وهو كائن لا يريد لأحد أن يشاركه في السلطة، أو ينازعه في الاختصاص، فكان القرار بتأجيل الانتخابات البرلمانية، إلى حين تمكنه من السيطرة على المشهد الانتخابي، وحتى يضمن ألا يطمع حزب في الأغلبية أو الأكثرية، على نحو يدفع الحزب للتمسك بهذه
التعديلات، والبرلمان وحده له سلطة تعديل الدستور، والآن لم يجد ما يمنع من الاعتراف بما كان يخفيه، وهو أن تعود الصلاحيات القديمة لرئيس الجمهورية إليه، بعد أن وصف من وضعوا هذا الدستور بأنهم من أصحاب النوايا الحسنة، والدول لا تبنى ولا تقام بأمثال هؤلاء!.
عندما تصف إنسانا بأنه "طيب" و"حسن النية"، فإنه الوصف وإن كان يحمل دلالة إيجابية، فإنه قد يعني العكس، ويعني أن الموصوف "أهبل" و "ساذج"، لا يملك القدرة على تقدير الأمور بشكل صحيح، ورغم هذا فلم نسمع من أعضاء اللجنة ردا على السيسي، إلا كمال الهلباوي، الذي دافع عن صفة حسن النية، وكان في دفاعه حسن النية أيضا، ذلك بأن السيسي من الذين يعتقدون بأن سوء النية كسوء الظن الذي هو من حسن الفطن. وهو هنا لا يثق في نواب البرلمان، وربما يتشكك في وطنيتهم باعتباره هو الوحيد الحريص على المصالح العليا للبلاد!.
لقد اعتبر البعض أن في هذا إشارة للهجوم على لجنة الخمسين التي وضعت الدستور، فاتهموا أعضاءها بأنهم من الإخوان، لتبرير تعديل الدستور بعد ذلك، رغم أن من اختار أعضاء هذه اللجنة هو الرئيس المؤقت "عدلي منصور"، وإن كنا نعلم أنه لم يكن "يهش" أو "ينش"، فإن الاختيار كان من قبل عبد الفتاح السيسي الحاكم بأمره منذ وقوع الانقلاب!.
ولأن الحال كذلك، فقد تقدمت إحدى القوائم المرشحة في الانتخابات البرلمانية من السيسي باعا برفع شعار تعديل الدستور، وذلك لإثبات "الحب العذري"، وإن كان السيد البدوي شحاتة، رئيس حزب "الوفد" هو من فطن لما توسوس به للسيسي نفسه، فطرح مبكرا فكرة تعديل الدستور لمنح المذكور الصلاحيات التي تمكنه من أن يحكم الأرض ومن عليها. وغيره فعل، إزاء عدم رغبة "المفدى" في إجراء الانتخابات البرلمانية، وكشرط لإجرائها!.
فربما يكون قد ألمح لهم بضيقه، لهذه الشراكة في الحكم، وربما قرأ من طالبوا بذلك ما في نفسه فانطلقوا يطالبون بتعديل الدستور. وللعلم فإن هذه الصلاحيات التي أقرها الدستور للبرلمان لا تنتقل بنظام الحكم في
مصر لتجعل منه نظاما برلمانيا، كما يروج البعض، وعلى أساس أن الحكم البرلماني لا يصلح في الأنظمة الفرعونية وفي "دولة المقر" بالذات!.
فالدستور الذي وضعه الانقلاب العسكري، جعل من نظام الحكم مختلطا "شبه رئاسي"، و"شبه برلماني"، وهو يعطي الرئيس حق حل البرلمان بعد عرض الأمر على الاستفتاء الشعبي، ففي أي حكم برلماني يمكن أن يمنح هذا لرئيس الدولة؟!.
السيسي لا يريد فقط أن يحتفظ لنفسه بما منحه الدستور للبرلمان ولرئيس الحكومة من صلاحيات في إدارة شؤون الحكم، ولكنه كذلك يريد تعديل النص الذي يحدد مدة الرئاسة بدورتين، فتصبح مددا، أو بأن تصبح الدورة أكثر من أربع سنوات، كأن تكون خمسا أو ست سنوات، وقبل هذا وبعده هو يريد أن يلغي التحصين الذي أقر لموقع وزير الدفاع، بشكل يغل يده عن الإطاحة بوزير الدفاع الحالي، إلا بعد ثماني سنوات من شغله للمنصب، وقد جعل النص الدستوري سلطة تعيينه ليست من اختصاص رئيس الدولة، أو البرلمان، أو الحزب الفائز بالأغلبية، فالاختيار معقود للمجلس الأعلى للقوات المسلحة!.
ويلاحظ أن لجنة الخمسين لم تضع هذه النصوص من وراء ظهر عبد الفتاح السيسي أو رغم إرادته، ولكنها فعلت هذا بطلب منه، تلقاه البعض على مضض، وإقرار اللجنة لمشروع الدستور، لم يمنع عبد الفتاح السيسي من أن يضيف إليه ويحذف منه، وكان المشروع الذي وضعته لجنة "حسني النية" ينص على أن يتم البدء بالانتخابات البرلمانية ثم الرئاسية، لكن هذا النص جرى تعديله، لجعل الأمر اختياريا، وبنص ركيك الصياغة، كاشف عن أن ما وضعه جنرال لا يعرف الفرق بين النص الدستوري وبين بيادته!.
وقد أعلن الدكتور محمد أبو الغار، رئيس الحزب المصري الاجتماعي، وعضو اللجنة، أنهم تسلموا دستورا مطبوعا بورق أنيق مغاير في بعض نصوصه عن الدستور الذي وضعته لجنة الخمسين، لكنهم صمتوا على ذلك على أساس أنهم كانوا في معية المجلس الأعلى للقوات المسلحة وفي "عزومة" منه على العشاء، وعلى قاعدة: "أطعم اليد تستح العين"، فتم تقبل ما جرى بروح رياضية!. فما الذي جرى إذن؟!
السيسي عند وضع الدستور لم يكن قد حدد موقفه، إن كان سيترشح رئيسا، أم سيستمر وزيرا للدفاع، وكان الغالب عنده أنه سيظل في موقعه، ليكون الرئيس على شاكلة "عدلي منصور"، ومن النوع "حسن النية"، ولأنه يخشى عليه من أن "يتمسكن"، إلى أن "يتمكن"، وقد يكرر تجربة الرئيس السادات، الذي اختاره عبد الناصر نائبا له، باعتباره تابعا لينا، واختارته مراكز القوى رئيسا بعد وفاة عبد الناصر، لأنهم من سيحكمون في الواقع، لكنه أطاح بهم جميعا وأدخلهم السجن!.
لقد اهتم عبد الفتاح السيسي بتحصين منصب وزير الدفاع، ولم يكن يعتقد أن غيره من سيستفيد بهذا التحصين، كما أخذ الدستور من صلاحيات الرئيس ومنحها للبرلمان، وعندما يحدث تنازع الاختصاص بين الرئيس ومجلس النواب ورئيس الحكومة، يكون الحكم هو لمن يملك القوة وهو وزير الدفاع، فيصبح الوصي على العرش دون نص دستوري، وإنما وفق نظرية الموظف الفعلي، وهنا يكون السيسي هو هذا الموظف بدرجة "الولي الفقيه" في إيران، لكنه وبعد أن حسم أمره وقرر الترشح رئيسا، فلا يوجد شيء مضمون إلا أن يصبح هو الرئيس، عندئذ وجد أن ما بدده هو صلاحياته هو، فكان الحديث عن "حسن النوايا" التي لا تقيم الدول، وكأن الدول تقام بسوء النوايا، والقدرة على التأمر!.
الجدير بالإشارة، أن إقرار الدستور شهد "زفة بلدي"، وتم نصب "فرح العمدة"، واستمتعنا بوصلات هز لبطون ممتلئة، بهذا الإنجاز الكبير، وبدا أنصار السيسي وقد حولوا الشوارع إلى "علب ليل"، كما لو كانوا "يتوحمون" على الدستور، وأن الانتهاء منه وعرضه للاستفتاء، سيمنع ظهوره كوحمة على وجه الأجنة في بطون الأمهات، ولا أدري الآن ما هو حالهن، والسيسي يسخر منه وممن وضعوه!.
لقد أهدر السيسي الكفاح الذي جرى أمام اللجان، من اللاتي رقصن طربا بالدستور!.
يا له من نضال ضاع هدرا!