كنت في خضم التحضير لكتابة خاطرة لي حول (ومن نعمره ننكسه في الخلق أفلا يعقلون - يس 68)، فإذا بي أقرأ على إحدى مواقع الشبكة العنكبوتية عن ذلك الشخص الذي يمشي في مراسيم تخريجه، ومن ثم توقف ليبصق على أستاذ جامعي في حرم جامعة جدارا في الأردن الحبيب. عندها توقفت مليا ودققت في المشهد رافعا كل التبجيل والتقدير والتقبيل لرأس ذلك الأستاذ الجامعي، وفي الوقت ذاته -وبكل تأكيد- نعيت الهبوط من
الإنسانية إلى
الحيوانية وفي الحرم الجامعي.
بالطبع لا يستوي الذين يعلمون واللذين لا يعلمون. بالطبع لن يرفع الله من أوتوا الجهل درجات بل يُنكسهم، وإنما يرفع الله الذين آمنوا وأوتوا العلم درجات. تربينا منذ الصغر على أن نحترم العلم ونبجل ونجل أساتذتنا بعد والدينا. حرصت وما زلت أن أقبل رأس أساتذتي وسأظل كذلك وربيت أولادي على حب العلم وأهله.
اليوم وأنا أعيش في المهجر -وكل البلاد أوطاني- أجد نفسي باكيا على أمتي التي انهار فيها أعظم أصولها بعد دينها وإيمانها. اليوم أجد نفسي ليس خجِلا من أولادي فحسب، بل من ذرياتهم ومَن حولهم والعالم الذي نعيش مما يُسجل في التاريخ، ومما يعتري أمتهم بفقدانها أصلا من أعظم أصولها وهبوطها من الإنسانية إلى الحيوانية في الصرح الجامعي الذي هو رمز العلم، ومن المفترض أن يكون رواق العلم ومصنعه بل مهد نشره. ونحن أمة "اقرأ" وأمة "الحديد"، وأمة العلم وأصحاب حضارة شهدت لها الأمم.
اليوم أنعي التعليم العالي نعيا تجترحني الآلام في حروف نعيه التي لا حدود لها إلا إطار الحفاظ على الإنسانية التي كرم الله فيها بني البشر بأعظم تكريم حينما خاطبهم في محكم التنزيل (يا أيها الناس اتقوا ربكم الذي خلقكم من نفس واحدة وخلق منها زوجها وبث منهما رجالا كثيرا ونساء .. النساء 1). ناداهم بأعظم خاصية فيهم وهي الإنسانية. وأمرهم بالتقوى، الذي هو في أبسط معانيه أن تعمل ما أمرت به من خالقك، وتبتعد عما نهاك عنه. فكلما عملت ذلك ارتقيت بإنسانيتك وارتفعت إلى قيم السماء وضد ذلك أن تهبط إلى الحيوانية.
للأسف لم نفهم حقيقة الهدف من الصلاة والصيام وسائر العبادات والأخلاق التي رُبينا عليها. لم نفهم مناط التقوى ولم نعِ أن من يهتدون يزيدهم الله هدى ويثيبهم تقواهم ،وكأنهم في نظام هندسي يغذي نفسه بنفسه باستمرار.
الحقيقة التي عشتها وعاصرتها عبر فئات المجتمع بمختلف أعمارهم وما سمحت لي به فئة عمري وظروفي لأتعايش مع أجيال مرت وتمر، هي الحقيقة المرة الشديدة العلقمية في أننا نعاني من أزمة تربية حقيقية. فليس الذنب فقط ذنب من كبُر وتصرف وهبط إلى الحيوانية، وإنما المسؤولية مشتركة من خلال البيت والمدرسة والمجتمع وواضعي ومراقبي التعلم والتعليم ومن يشرفون على التعلم والتعليم، وهل هم يستحقون مواقعهم التي هي أخطر المواقع في المجتمع وعلى مستوى البلد والأمة.
تعلمنا أن النتائج تعتمد على المدخلات وعلى العمليات التي تجري على المدخلات. إذا فلنحاكم ليس النتائج، بل كل ما أدى إليها، ولا يمر هذا مر الكرام.
الأردن الحبيب من أرقى الدول في العالم العربي التي تباهي في التعليم، خاصة جامعاتها العريقة. اليوم نحن في حاجة إلى وقفة عميقة وتحليل دقيق لما يحدث، ولا نأخذ فقط الحادثة منفردة، بل نحاسب أنفسنا ومربينا ومنهاجنا، وقبل كل هذا أنت أيها الولي رب الأسرة، أما سمعت قول الحبيب محمد صلى الله عليه وسلم: كلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته.
أما أنتم يا من أصبتم في عقر داركم، وأقصد هنا أساتذة الجامعات! ماذا أنتم فاعلون؟ هل تقبلون إهانة زميل لكم وإهانة العلم وصرح العلم وأرضية العلم ومجتمع العلم؟ ماذا أنتم فاعلون يا رؤساء الجامعات؟ هل ستتركونها تمضي وكأنها حادثة عرضية وتستمر الأمور؟ ماذا أنتم فاعلون يا نقابات الجامعات التي تنتمي إليها جامعاتنا؟ ماذا أنتم فاعلون يا منظمات المجتمع المدني؟ وأنت يا سيدي يا وزير التعليم العالي، وأيضا يا سيدي يا وزير التعليم، ماذا أنتم فاعلون؟ ألستم كلكم راع ومسؤول عن رعيته؟ الفعل يتضمن مراجعة ودراسة مواطن الخلل وجماعته، ومن هم في دائرة صنع الخلل وإيجاد أفضل السُبل، ليس لعلاج الخلل فحسب، فذلك مرحلي، ولكن اقتلاع الخلل والتخطيط لنقلة إنسانية حقه يكون أساسها لبنة المجتمع، ألا وهو ذلك الإنسان الذي كرمه الله سبحانه وحمله في البر والبحر وفضله على كثير من خلقه.
أما صاحب الفعل فيجب أن يأخذ حسابه الذي يتناسب مع فعلته، وكما تعلمنا فالجزاء من جنس العمل. لا يمكن أن يكون ذلك الفاعل- ولا أدري من هو، ولست هنا في خاصة من، ولكن في عمومية فاعل الفعل- قد نال شهادته الجامعية أبدا، ولا يمكن أن يعود إليها، فقد نال من العلم وأهله وحطم قيمه في عقر داره في الصرح الجامعي. وأين كرامة الأستاذ الذي كان ضحية ذلك الفعل الشيطاني غير الآدمي؟ إنها مسؤولية عظمى ولحظة حاسمة في سمعة التعليم والتعليم العالي، ليس في الأردن الحبيب وحسب، ولكن في العالم أسره.
حفظ الله لنا أخلاقنا التي بها نرتقي في علمنا، فنكن رسلا للعلم وأهله، ونحقق أمة الخيرية.