خلال السنوات القليلة الماضية، حصل
الأكراد في
تركيا على حقوق لم يسبق لهم أن تمتعوا بها منذ تأسيس الجمهورية التركية، لقد أتى ذلك تتويجا لمسار رسمه حزب العدالة والتنمية مقررا فيه الارتقاء بالمستوى السياسي والاقتصادي والاجتماعي التركي ضمن رؤية مستقبلية طموحة لم يسبق لحزب تركي أن وضع شيئا شبيها بها، فضلا عن أن يقوم بالالتزام بها أو تنفيذها.
وبالفعل، حقق الأكراد خلال هذا المسار وبسببه وفي فترة قياسيّة مكتسبات لم يكن أحد يتخيّل أن يحصلوا عليها بما فيه هم أنفسهم، وقد كان هذا الأمر دوما مثار جدل في أوساط الباحثين والمتخصصين، كما هو عليه بين أوساط العامة، حيث كانت فكرة حزب العدالة أنّ إعطاء القوميات المزيد من الحقوق، ضمن إطار المواطنة وبما يتساوى مع غيرهم من المواطنين، يجعل تركيا أقوى ويساعد على اندماجهم وعلى حل المشكلات العائدة إلى ترسبات تاريخية، لم يكن لأبناء اليوم دور فيها، بينما كان يجادل المعارضون أنّ الذهاب في مثل هذا الاتجاه سيؤدي إلى تقوية شوكة هذه القوميات؛ بحيث تشعر بحاجتها الدائمة إلى الانفصال بدلا من الاندماج وبقدرتها على الصراع بدلا من التعايش.
خلال سنة واحدة فقط، أصبح لدى الأكراد فرصة للتنافش على أعلى منصب رسمي في البلاد، وقد دخلوا السباق إلى جانب مرشّحين آخرين فقط، كما أصبح لديهم رابع أكبر حزب في تركيا وتحت قبّة البرلمان لأوّل مرّة في تاريخ الجمهورية التركيّة الحديث. ناهيك عن سلسلة المكتسبات التي حصلوا عليها في عام 2013 إثر إقرار رزمة الإصلاحات التي أقرتها الحكومة التركية برئاسة رجب طيب أردوغان آنذاك في أيلول 2013 ، في سياق مسيرة ديمقراطية تمتد على مدى 11 عاما، وشملت مجالات متعددة منها ما يتعلق بالحياة السياسية والحزبية والانتخابات، ومنها ما يتعلق بالحريات العامة والحقوق، خاصة ما يرتبط بالأقليات طُرحت للمرة الأولى منذ إنشاء دولة تركيا الحديثة.
فجأة، انقلب المسار رأسا على عقب بعد الانتخابات البرلمانية الأخيرة، لماذا؟ لأن حالة من التضخم أصبات جزءا من المكّون الكردي على ما يبدو، الأمر الذي أوقعه في حسابات خاطئة تماما. لقد فوّت حزب الشعوب الديمقراطية والقيمون عليه فرصة مثالية لكتابة التاريخ وصناعة المستقبل، وبدلا من الاستفادة من المكتسبات لتعزيز تأكيد حقوق المواطنة وواجباتها، وبدلا من أن يثبتوا لكل مشكك أنّهم أهل للمسؤولية، وأنّهم يريدون أن يلعبوا وفق قواعد اللعبة الديمقراطية، قرروا الإطاحة بكل المكتسبات الديمقراطية، وأن يعودوا إلى اللعبة القديمة وإلى الخنادق الحزبيّة والقومية الضيقة.
وقد انتهى الأمر بزعيم الحزب الذي سبق له وأن كان أحد المرشحين الرئاسيين، بأن يطالب بحمل السلاح وتشكيل ميليشيات عسكرية تشبه إلى حد كبير ظاهرة مألوفة لدينا، اسمها ميليشيات الحشد الشعبي الشيعية المنتشرة في العالم العربي حيث النفوذ الإيراني، وأن يتهم الدولة بدعم "داعش" في وقت لا يتورّع فيه هو وأنصاره وحزبه عن دعم تنظيمات لا تقل إجراما عن "داعش"، كتنظيم (PYD) وميليشيات وحدات حماية الشعب ودعم أجندتها التقسيميّة والانفصالية.
لم يتأخر حزب العمال الكردستاني عن الاستجابة للنداء، فقرر إنهاء الهدنة وقتل عملية السلام بتبنيه عمليات إرهابية بشكل رسمي وعلنا. اليوم يعود الصراع المسلّح الذي أودى بحياة عشرات الآلاف خلال العقود الماضية إلى الساحة من جديد في تركيا، الخاسر الأكبر فيه هي البيئة الكردية التي تعجز عن إفراز من يمكنه أن يوصل سفينتهم الهوجاء إلى بر الأمان.
لقد وجّه الأكراد ضربة قاسية لأنفسهم، وسيعانون سياسيا واقتصاديا واجتماعيا وأمنيّا، كما أن الاستقطاب الحاصل اليوم نتيجة خطابهم وتصرفاتهم وحملهم للسلاح سيزيد من عزلتهم، ولو حصلت انتخابات نيابية مبكرة في مثل هذه الظروف فعلى الأرجح لن يستطيع حزب الشعوب الديمقراطية الحصول على النسبة السابقة ولا حتى التأهل للبرلمان، لان شريحة واسعة ممن انتخبوه صوتوا له على استجابة للتغير الذي حصل إثر اطلاق عملية السلام، أمّا وقد انهارت ولم يستفيدوا شيئا لا في السياسة ولا في الاقتصاد ولا في الأمن، فسنعود أيضا إلى المعطيات القديمة سريعا.