يتعرض الداعية الإسلامي لضغوط كبيرة، أخطرها ضغطان: 1ـ ضغط السلطة بوعدها ووعيدها. 2ـ ضغط الجماهير التي تحبه وتصنع شعبيته.
وما يقال عن الدعاة هنا، يقال عن العلماء، والسياسيين، والقيادات الثورية، وقيادات ومسؤولي الجماعات الإسلامية، وكل صاحب جماهيرية كبيرة، فهو شاء أم أبى يعيش بين هذين الضغطين ولا ينفكان عنه، وأهون الضغطين هو ضغط السلطة بوعدها ووعيدها، وأشقهما على نفس الداعية هو ضغط الجماهير، فهو ضغط غير مباشر، ويحسب له ألف حساب أكثر من حساب السلطة الغاشمة.
لست أعني بذلك أن الداعية عليه أن يكون فظا لا قلب له مع الجماهير، أو عند علاج أخطائها، فخلق الرحمة واللين مهم لو فقده لصار جزارا لا داعية، ولكن لا تمنعه الرحمة والرفق من بيان الخطأ، والقول على الخطأ خطأ مهما كان، أما علاج الخطأ فكيفيته والتدرج فيه، أمر آخر مع الجماهير.
لقد قال مرة الرمز الشيعي الشيخ محمد حسين فضل الله: لا داعي لما يحدث من الشيعة من اللطم على الجسد، فهاجت عليه الدنيا، وانفضت الجماهير من حوله، ولعل هذا ما يفسر عدم جسارة وجرأة المراجع الشيعية في مواجهة أخطاء الجماهير التي يقرون بها في مجالس العلم، لكن لا يجرؤون على الإعلان بها، أو مصارحة الجماهير بها، لأن كل مرجع ينال الخمس من مال الشيعي، وكلما ازداد عدد مؤيديه ازداد هذا المال ممن يتبعونه، ولكل شيعي الحق في أن يكون تبعا لأي مرجع يحب، فمعنى ذلك: أن الجماهير ستختار اللين معها، حتى ولو في إقرارها على الخطأ.
وهذا ما يقع فيه عدد من دعاة السنة كذلك، فهو يحسب للكلمة ألف حساب، ويخشى من مواجهة الجماهير بأخطائها، مخافة أن ينزل رصيده، ليس من المال في هذه الحالة، بل من التأييد والتعاطف والاتباع، فالداعية الحق هو من يتعامل مع الجماهير على أنها موضع تغيير في أخطائها، وأنه موجه لها، لا أن تصبح هي الموجهة له في صوابها وخطئها، بل أحيانا يقبل خطأها ويبرره، ويتغاضى عنه، بل عليه أن يجعل نصب عينيه قوله تعالى: (الذين يبلغون رسالات الله ويخشونه ولا يخشون أحدا إلا الله) الأحزاب: ، وقوله صلى الله عليه وسلم: "من التمس رضا الله بسخط الناس، كفاه الله مؤنة الناس، ومن التمس رضا الناس بسخط الله، وكله الله إلى الناس" وفي رواية: "سخط الله عليه، وأسخط عليه الناس".
فالداعية يتعامل مع كل قضية بأن يتحرى البحث عن الحق فيها، ثم قول الحق حسب النتائج التي توصل إليها بحثه، جاعلا رضا الله نصب عينيه، فإن رضا الناس (الجماهير) غاية لا تدرك، والجماهير يتطور فهمها يوما بعد يوم، وستعلم يوما أن موقف الداعية الذي مالأها فيه يوما ما كان سبب كارثة عليها، ولو بدت مؤيدة له فيه، حاملة له على أعناقها، أما لو قال ما يرضي الله، مبتغيا الأجر من الله وحده، وقتها ستعلم الجماهير ولو بعد حين أنه قال ما فيه صالحها في الدنيا والآخرة.
من الدعاة القلائل الذين انتصروا على ضغطي السلطة والجماهير معا: الشيخ محمد الغزالي رحمه الله، فقد واجه كل خطأ دون هوادة مع أحد، فكتب وألف يواجه التطرف بكل ألوانه، فبداية من تطرف الحكام واستبدادهم، فكتب عن الاستبداد السياسي لدى الحكام كثيرا، وكتب وواجه التطرف عند العلمانيين واليساريين، وكتب وواجه التطرف الإسلامي من حيث الفكر، وقلب شجرة الإسلام بجعل الفروع موضع الجذور، وتقديم الشكل على الجوهر، وألفت ضده في حياته وبعد وفاته كتب اقتربت من العشرين كتابا تنال من سمعته الدينية والشخصية، ومع ذلك لم تلن له قناة، فكان نموذجا فذا للداعية حينما يستعين بالله لمجابهة كل تطرف أو خطأ عند جميع شرائح الأمة بداية من الحاكم وانتهاء بالجماهير.
أما ضغوط السلطة على الداعية فلها حديث آخر مستقل إن شاء الله.
[email protected]