لم يكن أواخر آب/أغسطس من العام الماضي (2014) منتهى حرب
العصف المأكول، فلم تطو صفحتها بإعلان وقفها، لأن ثمة هزات ارتدادية لها ما زالت تتجلى حتى اليوم، ويتوقع أن يطول أمدها وهي تقدم مفاجآت عديدة من حين لآخر، وتظهر جانبا مما كان مستورا خلال الحرب، أو تعمّدت
كتائب القسام الصمت عنه وقتها، لتظهره في مراحل لاحقة.
فيلم (خلف الخطوط) الذي بثته كتائب القسام قبل يومين وكشفت فيه تفاصيل اقتحامها موقع (أبو مطيبق) العسكري خلال الحرب لم يكن العملية الفريدة الوحيدة، فهناك عشرات غيرها، بعضها موثق بالتصوير، فيما كشف
الاحتلال تفاصيل بعضها الآخر، لكنها جميعا أكدت حقيقة تفوق القسام العملياتي خلال الحرب، ومدى التطور والأداء المتقدم الذي بلغه عناصر الكتائب، إضافة لجرأتهم على الاقتحام وكسر كثير مما يبدو مستحيلا أو خارج حدود القدرة على الاستهداف.
والأهم من ذلك أن نهاية ارتدادات الحرب ستظل مفتوحة إلى حين إتمام صفقة تبادل الأسرى، مع كل ما ستكشفه الأيام قبل تلك اللحظة من معلومات حول عدد ومصير أسرى الاحتلال لدى حماس، ليس فقط لأن كل معلومة بثمن، بل لأن اضطرار الاحتلال مؤخرا للاعتراف بفقده عناصر حية في غزة قد بين أن المعادلة على تلك الجبهة قد تغيرت بالكامل، ولم يعد الاحتلال صاحب اليد العليا الباطشة دونما حساب، وغير القابلة للإيلام.
وبالتزامن مع ذكرى الحرب كانت المفاجأة على الساحة المقابلة للمقاومة، أي الضفة الغربية، مع إعلان الاحتلال كشفه عناصر الخلية التي نفذت مؤخرا عدة عمليات ضد المستوطنين الصهاينة في الضفة، حيث تبين أن الخلية من بلدة سلواد قرب رام الله، لكن المفاجأة غير المدهشة أن عناصرها لم يكونوا جميعا رهن الاعتقال لدى الاحتلال، بل إن اثنين منهم هما أحمد الشبراوي ومعاذ حامد معتقلان لدى مخابرات السلطة في رام الله، وذلك منذ حملة الأجهزة الأمنية ضد عناصر حماس في الضفة خلال شهر رمضان، وعقب تزايد وتيرة عمليات إطلاق النار على سيارات المستوطنين في الضفة.
استهداف السلطة مجاهدي المقاومة ليس جديدا، فهو سياسة منتهجة منذ اتفاق أوسلو، وفقا لمقتضيات التزامات السلطة الأمنية، لكن تلك السياسية القذرة توقّفت في غزة منذ عام 2007، بينما ظلّت مستمرة في الضفة، وغدت خلايا المقاومة عرضة للملاحقة والاستنزاف على جبهتين، مما أسهم في إفشال محاولاتها للتقدم والتعافي وتجاوز العثرات.
فضيحة اعتقال المجاهدين وتعذيبهم ومحاسبتهم والتناوب مع الاحتلال على ملاحقتهم تتحدث عن نفسها، لأن تجلياتها يومية ولا قِبَل لقادة السلطة بإنكارها، وفي المقابل، فإن أمثولة صعود نجم المقاومة في غزة تتحدث عن نفسها وعن رعاتها، وعن أسبابها وآثارها.
من سلواد إلى (أبو مطيبق) يبدو واضحا أننا نتحدث عن نوعية واحدة من المجاهدين الاستثنائيين في زمن صعب ومكان محاصر، لكن الفرق بين الحالتين ليس في المسافة بين الموقعين وحسب، بل في الظروف التي تطارد الأول، وتلك التي تحتضن الثاني وترعاه، وهو فرق ينبغي ألا يتلاشى عن الأفهام عند تطرّق أي كان لفضائل المقاومة وضروراتها، ومحاولة استيعاب حاجاتها وخصائص واقعها.
ومن سلواد إلى (أبو مطيبق) تسامت راية العز والفخار وسقطت رهانات التنسيق الأمني مع المحتل، وتمايز حملة لواء المقاومة عن مشرّعي أسنة الحرب عليها. ولم يختلف شعار المجاهد في سلواد عنه لدى نظيره في غزة، الذي اختلف فقط جدار الاتكاء وحجم الصلاحية التي يحوزها المحتل للعبث في كل ساحة منهما، ونجاحه أو إخفاقه في توظيف وكلائه وإنفاذ خطط إجهاض المقاومة.