غانيه تال أو جانيه تال – ج
مصرية- أي تل الحدائق أو تل الجنّات- هو اسم لإحدى المستوطنات
الإسرائيلية من مجموع الـ21 مستوطنة التي كانت جاثمة على أراضي قطاع غزّة، والممتدة على طول الساحل للمتوسط من بيت حانون شمالا إلى مدينة رفح جنوبا، ولكنها كانت تتركز بكثافة على أراضي مدينة خانيونس، والتي بُدئ العمل بها كنقاط استيطانية، منذ بداية سبعينيات القرن الفائت، ترتيبا على فكرة أرض إسرائيل الكبرى، ومن ناحية أخرى للاستثمار الاقتصادي والتوسعة على السكان اليهود، وللضغط على العرب من أجل كسر لاءات الخرطوم التاريخية التي كانت اتُّخِذت للتو وتحديدا في أعقاب نكسة 1967، وإرغام العرب على التفاوض مع الدولة الإسرائيلية.
كان الانتقال إلى مزارعنا الماكثة بالقرب من شواطئ خانيونس، لا يستغرق أكثر من نصف ساعة سواء كان مشيا على الأقدام أم على ظهور الحمير، باعتبارنا لا نقِل عنها قوّة في ذلك الزمان، من خلال طرق تم رسمها في الصحراء الصغيرة وعلى طول كثبانها الرمليّة، قبل قيام الإدارة المصرية بغرسها بأشتال الأحراش، بهدف مكافحة التصحّر والاستفادة من بيئة خضراء. وعلى الرغم من أنها لم تسلم من المحتطبين ورعاء الشاء، إلاّ أنها أصبحت غابة ممتدة، بعد تأليف طاقم من الحراس الجائلين يصفرون على الحمير والجمال، لطرد المعتدين عليها والمغتصبين لحرمتها، وقد بقيت على ذات الحال، حتى انهيار الإدارة المصرية في أعقاب العدوان الإسرائيلي عام 1967.
إلاّ أنّنا اضطررنا إلى بذل المزيد من الوقت والجهد، بسبب عملية الالتفاف نحو طرقٍ أخرى للوصول إلى المزارع، بعدما صحونا على أنباء تفيد بأن هذه المنطقة والتي تزيد قليلاً على 2كم 2، محظورُ التجوال فيها، بأمر صادر عن قيادة الجيش الإسرائيلي، والذي سارع إلى وضع علامات بائنة، وتسويرها بالأسلاك الشائكة، ولم تمضِ بضعة شهور قليلة، حتى تم الشروع في إقامة المستوطنة، والتي تحمل الاسم أعلاه، من خلال تسوية المكان بأحدث المكائن والمعدّات.
نحن
الفلسطينيين كمواطنين، كان لا يهمنا في ذلك الوقت وأمام المشهد الاستيطاني الواضح، سوى جمع الفروع والأغصان من أمام الجرافات الإسرائيلية، بهدف توفير المزيد من كميّات الحطب بعد الحرمان الطويل من اقتنائها، والتي كانت تصل إلى حدِّ حدوث معارك طاحنة بين المواطنين وأنفسهم، فيما لو تجرّأ بعضهم على ما يحتجره البعض الآخر، ولكن ذلك لا ينفي أننا كنّا نستمع بشراهة، إلى شعارات الشجب والاستنكار والتحذير العربية بخاصة.
كان بعض من هم أسنّ منّا، يسخرون من الإسرائيليين، لأنهم يريدون الارتزاق من الصحراء باعتبارها قاحلة، حيث لا ينفع فيها الزرع، ولا يجمّ فيها الضرع، لكنهم فشلوا في اعتقاداتهم، عندما لم تمضِ بضع سنوات، حتى شوهدت (غانيه تال) وكأنها اسم على مسمى، (مدينة الأحلام)، حيث المساكن إلى اليمين تقابل شروق الشمس ومزارع متطورة منتجة تخضع لشروق الشمس وغروبها في آنٍ معا، بلغ إنتاجها في المتوسط، أكثر من مليون دولار أمريكي في اليوم الواحد، لأنها تنتج أنواعا من خضار خاص، إلى جانب ميزة التصدير الفوري، بحيث تصل إلى الأسواق الأوروبية والأمريكية في يوم قِطافها.
منذ افتتاحها تولى الفلسطينيون مسألة العمل بها، حيث احتوت أكثر من 5000 منهم، في ذروة المواسم، يعملون على مدار 8 ساعات، وهناك أوقات إضافيّة لمن يرغبون في تعظيم أرباحهم اليوميّة، وتجدر الإشارة إلى أن أي إصابة عمل، كان يقابلها المزيد من التعويضات والتي تكون خياليّة في بعض الأحيان.
كان المواطنون العاديّون والعمال بخاصة طليقي الحريّة، فيما إذا أرادوا الدخول إلى أعماق (غانيه تال) أو الخروج منها، ويكفي أن يراهم الحارس اليهودي بعينيه، والذي ربما يكون (المختار– العمدة) بذاته، كونه يحمل نصيبا من الحراسة، كأي مستوطنٍ آخر، وفي حال عدم الاطمئنان لأحدهم، يُطلب منه ترك البطاقة الشخصيّة، ويتم استرجاعها عند المغادرة.
ذات مرة دخلت إلى المستوطنة من البوابة الرئيسيّة، وكان وقت الظهيرة، للاطلاع على شيء ما، وكان الحارس قد غلبه النوم، ولما هممت بالمغادرة، انتبه وسأل فيما إذا كنت قد نسيت استرداد بطاقتي، بسبب عدم توجهي إليه، فأخبرته بأن لا بطاقة لدي وبأنه كان نائما، فعجب قليلا لكنه سرعان ما أمرني بالانصراف من المكان.
ظل الحال على هذا المنوال حتى ثلاث سنوات منذ سريان مفعول الانتفاضة الفلسطينية الأولى أواخر عام 1987، حيث بدأت إجراءات التشديد في عملية الدخول والخروج، وتشديد آخر وبدرجة أكبر على طول الحدود حول المستوطنة تحسبا لحدوث أية أعمال ثورية ضدها (سكانا وممتلكات)، وكانت تلك الإجراءات تتزايد كلما تصاعدت تلك العمليات، وكان حدث المزيد منها وسواء تلك التي تقوم بها المقاومة على اختلافها، أو التي يقوم بها مواطنون عاديون، بهدف الاستيلاء على أشياء أخرى، والتي ساهمت في إجراءات احترازيّة وانتقاميّة في ذات الوقت، تصل إلى إغلاق المستوطنة، حتى أمام العمال المعروفين أيضا.
خلال الانتفاضة الثانية – انتفاضة الأقصى 2000- وصلت التطورات الأمنيّة إلى مناحٍ خطِرة ومُزرية في آنٍ معا، عندما تم تشديد إجراءات الحراسة من خلال تشييد أسوار أخرى غاية في الغلوّ والتطور، فعلاوةً على تكثيف الدوريات المحمولة والراجلة، فقد تم تزويدها بمجسات إليكترونية حساسة، وكاميرات تصوير ليلية، واللجوء إلى كهربتها كإجراءات تكميلية قاتلة، فضلا عن تشغيل أسلحة النار بصورة متواصلة ومكثفة ومخيفة، باتجاه أي متحرك ليلا أو نهارا، إذا ما تم الاعتقاد بأنه يُمثل تهديدا، والتي كانت تُصيب بصورة مباشرة، البيوت والممتلكات وخاصةً القريبة من المكان.
لم يسمح للعمال الفلسطينيين بالدخول، حتى الالتزام بالوقوف عُراة حفاة، في طابور طويل، والخضوع للتفتيش الدقيق لملابسهم ومتعلقاتهم الشخصيّة الأخرى، وانطبقت تلك الإجراءات على مدار الوقت وسواء كان صيفا أم شتاء، فقد وصلت ذروتها بإغلاق الباب تماما أمام الفلسطينيين، واستبدال العمال الأجانب بهم بصورة نهائية، الذين تم جلبهم من دول شرق آسيا – تايلند، الفلبين، سيريلانكا ودول أخرى -، وبرغم أنهم أعلى سعرا وتكلفة، وأقل إنتاجا، لكنهم كانوا يمثلون حلا مهمّا أمام نشاطات المقاومة والمشاغبين العاديين، بعد أن تلقّت عمليات اقتحام وتسلل ونصب كمائن، تم خلالها قتل إسرائيليين، وقنص الأشياء باعتبارها غنائم حرب.. يتبع