نشرت صحيفة "واشنطن بوست" تقريرا لمراسلتها في القاهرة إيرين كاننغهام، قالت فيه إن قمع
جمعيات حقوق الإنسان تجاوز بكثير ما كان عليه أيام الرئيس المخلوع حسني مبارك.
ويشير التقرير، الذي اطلعت عليه "
عربي21"، إلى أن محمد زارع كان يدير قبل عام مؤسسة غير ربحية ناجحة في مكتب نشيط في مركز القاهرة، ويعمل معه 50 موظفا، حيث يقدم المساعدات القانونية والطبية للسجناء
المصريين. واليوم لم يبق معه سوى ثلاثة موظفين يعملون من شقة صغيرة، يخر من سقفها الماء في ضاحية مبانيها متهلهلة، وقد أوقفوا معظم مساعداتهم للمعتقلين، وقد منعت السلطات المصرية قريبا محمد زارع من الاستفادة من 50 ألف دولار من الاتحاد الأوروبي، ما يشل مؤسسته، التي أصبح عمرها 18 عاما، وهي جمعية حقوق الإنسان لمساعدة السجناء.
وتذكر الصحيفة أنه في منطقة تعج بالحروب المتعددة؛ فإن حملات النظام في مصر ضد مجموعات المجتمع المدني لا يلاحظها أحد، وقد وصلت إلى مستوى الإجراءات القمعية، التي تجاوزت أي إجراءات اتخذها الرئيس المخلوع حسني مبارك، بحسب ما تقول منظمات حقوق الإنسان.
وتبين الكاتبة أن السلطات قامت في الأشهر الأخيرة بمضايقة المنادين بحقوق الإنسان، وصادرت منحا لمؤسسات غير ربحية، مثل المؤسسة التي يشرف عليها زارع. كما أن الحكومة سنت قوانين تجعل هذه المؤسسات تخضع للرقابة.
وينقل التقرير عن المسؤولين قولهم إنه يجب مراقبة تلك المنظمات للتأكد من عدم عملهم ضد مصلحة الشعب، ولكن الناقدين لتلك السياسة يقولون إن الحملة دمرت منظمات ضرورية لضمان الممارسات الديمقراطية في بلد يسير نحو الاستبداد.
وتلفت الصحيفة إلى أن الحملة زادت من حدتها الخريف الماضي بإنذار مؤسسات المجتمع المدني، لأن تقوم بالتسجيل مع السلطات المتخصصة. وكان كثير من هذه المؤسسات قد سجل في السابق على أنه شركات قانونية أو شركات خاصة، لتجنب القيود المتعلقة بالتسجيل رسميا مع الحكومة.
وتنقل كاننغهام عن مدير مركز القاهرة لدراسات حقوق الإنسان، محمد زارع قوله: "هناك محاولات واضحة من الحكومة للقضاء على العمل الحقوقي في مصر، في وقت ترتكب قيه أسوأ
الانتهاكات لحقوق الإنسان"،
ويورد التقرير أن المركز المسجل على أنه شركة أبحاث نقل مؤخرا برنامجه لرصد انتهاكات حقوق الإنسان الإقليمية إلى تونس، ولكن الناشطين يقولون إنه حتى الجمعيات التي تمر في عملية التسجيل الصعبة مع الحكومة تواجه الاضطهاد.
وتنوه الصحيفة إلى أن الحكومة قامت حديثا بفرض منع السفر على موظفي المعهد المصري الديمقراطي، وهو جمعية غير ربحية، بالرغم من تقديمه أوراقه للتسجيل لدى السلطات منذ الخريف الماضي. مشيرة إلى أن مثل هذه الإجراءات اضطرت جمعيات أخرى للتخلي عن موظفين، وعدم قبول المنح الخارجية، ونقل نشاطاتها إلى الخارج.
وتوضح الكاتبة أنه بموجب مرسوم صدر العام الماضي فإن أي شخص يتلقى تمويلا أجنبيا بهدف إيذاء "المصالح الوطنية" المصرية يواجه عقوبة تصل إلى السجن مدى الحياة.
ويقول زارع: "إنه لا يهم إن كنت مسجلا أم لا، بل إن الأمر يتعلق بطبيعة الأنشطة التي تقوم بها مؤسستك، هل تتفق معها الحكومة أم لا، نحن نعمل في بيئة أسوأ مما كانت عليه تحت حكم مبارك، نحن نحارب من أجل البقاء"، بحسب الصحيفة.
ويستدرك التقرير بأنه تحت حكم مبارك، الذي أطيح به في ثورة تؤيد الديمقراطية قبل أربع سنوات، حدت السلطات من أنشطة مؤسسات المجتمع المدني، ولكنها أعطت الناشطين مجالا أكبر ليقوموا بعملهم. ويقول الناشطون إن مبارك كان قلقا من انتقاد الولايات المتحدة وغيرها لحكمه، أكثر مما هو عليه رئيس مصر الحالي عبدالفتاح
السيسي.
وتكشف الصحيفة عن أنه بعد ثورات الربيع العربي عام 2011، قام المانحون، بما في ذلك الحكومة الأمريكية، بإغداق الأموال على المنظمات الداعية إلى الديمقراطية ومنظمات حقوق الإنسان، التي عملت على تدريب ناشطي المجتمع المدني ومراقبي الانتخابات.
ويعلق زارع بأنه بعد الثورة: "كان هناك مجال سياسي، وكانت هناك انتهاكات لحقوق الإنسان، ولكن كان هناك متسع للتحرك، وكانت هناك أحزاب وحركات اجتماعية وبرلمان، وحتى لو كانت هناك تهديدات من الحكومة، كان بإمكاننا العيش والعمل بشكل جيد في تلك البيئة".
وتلفت كاننغهام إلى أن مسؤولي الحكومة ظنوا أن جمعيات المجتمع المدني كانت لها يد في الثورة، وعندما صعد السيسي إلى السلطة بانقلاب عام 2013، أحكم قبضته على السلطة، وسجن عشرات الآلاف من الناس، وصور ناقديه على أنهم أعداء للدولة.
ويفيد التقرير، الذي ترجمته "
عربي21"، بأن السلطات ركزت على المؤسسات غير الربحية، التي يعتمد معظمها على التمويل الخارجي، في محاولة منها لسحق المعارضة. وأعطيت المخابرات المصرية والأمن الوطني سلطات واسعة في الموافقة على تمويل هذه المؤسسات أو رفضه، وفي التحقيق في أنشطة القابضين لتلك المساعدات، بحسب ناشطي حقوق الإنسان والمسؤولين.
وتنقل الصحيفة عن السلطات قولها إن هناك قوانين وضعت لمصادرة الأموال التي ترسل للمؤسسات الخيرية التابعة للإخوان المسلمين، وهي الجماعة المعارضة التي أعلنتها الحكومة منظمة إرهابية عام 2013. وكان الرئيس السابق محمد مرسي، الذي أطاح به الانقلاب العسكري، عضوا في الجماعة.
وتستدرك الكاتبة بأنه في ملف أعده الأمن الوطني تبين أن الإسلاميين ليسوا هم الهدف الوحيد، حيث ذكر أن عددا من منظمات المجتمع المدني، بما في ذلك منظمات حقوق الإنسان، تعمل لصالح دول أجنبية لم يتم تحديد هويتها، للإساءة لسمعة مصر. وقامت صحيفة "الشروق" اليومية بنشر تفاصيل ذلك الملف هذا الشهر.
ويشير التقرير إلى أن وزارة التضامن الاجتماعي، المسؤولة عن تسجيل المنظمات غير الربحية ومنظمات المجتمع المدني، رفضت التعليق على الموضوع، بالرغم من طلب التعليق منها عدة مرات.
وتذكر الصحيفة أن مسؤولا كبيرا سابقا يعمل اليوم في مكان آخر من الحكومة، قال إن الوزارة تعتمد بشكل كبير على الأمن الوطني في مراقبة المنظمات غير الحكومية. وقال المسؤول، الذي استقال بسبب معاملة الوزارة لجمعيات المجتمع المدني، إنه في الأشهر القليلة الماضية قامت المخابرات "بمنع وصول الأموال التي شعرت بأنها تستخدم في أنشطة معارضة للحكومة".
وأضاف المسؤول للصحيفة: "إن هذا ليس مقبولا، فهل على المخابرات أن تراقب كيف تستخدم الأموال الآتية من الخارج؟، وكم من السيطرة يجب أن تملك حيال هذه الأموال؟، ويجب علينا أن نسأل: أين تقف حدود سلطتهم؟".
وتجد كاننغهام أن هذا الموظف معارض فريد داخل بيراقراطية تكاتفت حول السيسي. ويقول ناشطو حقوق الإنسان إنهم يعيشون في خوف من الاعتقال، ومداهمات الشرطة، وحتى الهجمات العنيفة من القوات الأمنية، وقالوا إن بعض الناشطين تلقوا تهديدات في الأشهر الأخيرة.
ويورد التقرير إلى أنه في كانون الأول/ ديسمبر 2011 قامت قوات الأمن باقتحام مكاتب عدد من المؤسسات غير الربحية الدولية، بما في ذلك اثنتان تدعمهما الحكومة الأمريكية، وأدانت محكمة بعد ذلك عشرات الموظفين، وبعضهم حكم عليه غيابيا بتهمة استلام أموال بطريقة غير شرعية.
وتجد الصحيفة أنه بالرغم من أنه لم تكن هناك مداهمات في الأيام الأخيرة، إلا أن منظمات المجتمع المدني خائفة من أنه يمكن استهدافها في أي وقت.
وتنقل الكاتبة عن مؤسس جمعية ضحايا الاختطاف والاختفاء القسري، التي تختص برصد حالات الاختطاف من أفراد الأقلية المسيحية القبطية، إبرام لويس، قوله إن الطلب من الجمعية تسجيلها على أنها مؤسسة غير ربحية تم رفضه؛ لأن المسؤولين الأمنيين قالوا إنه متهم بمهاجمة الجنود في مظاهرة في القاهرة في تشرين الأول/ أكتوبر 2011. وفي الحادث ذاته قتل 27 مسيحيا قبطيا كانوا يحتجون على الهجمات الطائفية ضد كنائسهم.
ويضيف لويس أنه كان عليه أن يحصل على وثائق من المحكمة تثبت براءته قبل أن يقوم بتقديم طلب آخر لا يزال قيد الدراسة.
وينقل التقرير عن المدير التنفيذي لاتحاد حرية التفكير والتعبير عماد مبارك، قوله: "هذه أسوأ هجمة على المجتمع المدني في تاريخ مصر".
وتختم "واشنطن بوست" تقريرها بالإشارة إلى أن الاتحاد الذي تدعمه السويد وهولندا، قام بإلغاء بعض أنشطته بسبب الهجمة. ومع أن الاتحاد كان يوفر المساعدة القانونية في طول وعرض البلاد، فإن محاميه لا يعملون الآن سوى في القاهرة؛ خوفا على أمنهم، بحسب عماد مبارك، الذي يقول: "الوضع سيسوء فقط، كنا دائما مهددين، ولكن ما نواجهه الآن على مستوى مختلف".