في مقاربة مسألة حرية الاعتقاد في الإسلام، ثمة من يرى أن الإسلام كفل لكل البشر الحرية التامة في اختيار العقيدة التي يقتنعون بها، حتى وإن أفضى ذلك إلى اختيار الكفر، باعتبار حرية الاعتقاد "مبدأ إسلاميا أصيلا" استنادا إلى نصوص قرآنية تقرر ذلك وتؤكده طبقا لفهمهم وتأويلهم لها.
وتأسيسا على ذلك المبدأ فإنه ليس من واجب الدولة "الإسلامية" القيام بدور الوصي على
عقائد الناس ودياناتهم، بل هي مكلفة بحماية جميع مواطنيها ورعاياها، ليس على أساس عقائدهم بل بموجب عقد المواطنة الذي لا يفرق بين مؤمن وكافر في الحقوق والواجبات.
القائلون بذلك استدلوا بجملة آيات قرآنية، منها قوله تعالى: {وَقُلِ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ..}[الكهف: 29]، والآية (265) من سورة البقرة {لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ، وقوله تعالى: {أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ} [يونس: 99]، {فَإِنْ أَعْرَضُوا فَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا إِنْ عَلَيْكَ إِلَّا الْبَلَاغُ} [الشورى:48].
ووفقا للمفكر السوداني صاحب الرؤى الإشكالية والأفكار المثيرة للجدل، النيِّل أبو القرون فإن "الإسلام أعطى الحرية للإنسان للاختيار، فالأمر يتعلق بحرية الإنسان في اختيار الكفر أو الإسلام" مستشهدا على قوله هذا بالآيات السابقة وآيات أخرى غيرها.
وفي رده على سؤال "
عربي21" عن كيفية الرد على العلماء الشرعيين الذين رفضوا أطروحته (وآخرين غيره) تلك، مُخطِّئين استدلالهم بالآية (فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر)، إذ إن الأمر فيها للتهديد والوعيد وليس للتخيير كما فهموا منها، قال أبو القرون: "فهمهم للآية من كتاب الله ليس مقدسا ولا يلزمني، وكلام الله لا يحصرة تفسير أحد من السلف أو غيرهم"، مضيفا أنه استشهد بآيات أخرى "تؤكد حرية الإنسان في الاختيار".
وجوابا على سؤال: "هل للدولة الإسلامية حق في محاسبة الناس على عقائدهم أم أنه لا حق لها في فعل ذلك؟"، ما يعني ترك الناس يعبدون ما يشاؤون بكل حرية، رأى أبو القرون أنه "لا توجد دولة إسلامية أو
دينية على الإطلاق"، معللا ذلك بقوله: "الإسلام لا تحده حدود جغرافية ولم يكوِّن الرسول (صلى الله عليه ووالديه وآله- بحسب الصيغة التي يصر أبو القرون على استخدامها) حكومة لتباشر الدعوة من بعده".
وأضاف أنه "لم يُكوِّن نبي أو رسول دولة باستثناء داود وسليمان عليهما السلام، وكلمة الحكم في القرآن لا تعني غير القضاء (التشريع)، وليس مقصودا منها الحكم السياسي. قال تعالى في مخاطبة موسى عليه السلام لفرعون: {ففررتُ مِنكُم لمّا خِفتكُم فّوهبَ لي ربي حُكمًا وجعلني من المُرْسَلين}"، ولم يحكم مصر.
وتابع أبو القرون استشهاده على أن الحكم في القرآن لا يعني الحكم السياسي بما ورد في حق نبي الله لوط عليه السلام (ولوطا آتيناه حكما وعلما ونجيناه من القرية التي كانت تعمل الخبائث)، ومعلوم أنه لم يؤسس دولة، فكلمة الحكم لا تعني غير الشرع أو الرسالة.
الإسلام لا يبيح حرية الكفر
برؤية مغايرة لما ذهب إليه المفكر السوداني أبو القرون، رأى الدكتور أحمد كساب أستاذ العقيدة والفلسفة في كلية أصول الدين بجامعة الأزهر أن الإسلام لا يمكن أن يبيح حرية الكفر، وإنما حرمه وأبان قبحه، لأن الكفر أقبح الأعمال وأشنعها، وقد أكثر القرآن الكريم من بيان عقائد الكفار وشنع وصفهم لله بما لا يليق به.
وأضاف الدكتور كساب قائلا: "مع أن الإسلام أعطى الإنسان حرية الاختيار ليكون مسؤولا عن اختياره وفق مبدأ التكليف وما يترتب عليه من ثواب وعقاب، إلا إنه حذره من سلوك مسالك الكافرين والمشركين، وتوعده بالعذاب الشديد يوم القيامة".
وتساءل الدكتور كساب في حديثه لـ "
عربي21": "كيف يُحرم الإسلام الخروج منه ثم يبيح حرية الدعوة إلى الكفر في ظل حكمه وسيادته؟ وكيف يُعقل أن يقام حد الردة ثم يبيح ما يؤدي إليه من حرية شيوع الكفر والتبشير به؟"، مؤكدا أن من واجبات
الدولة الإسلامية حظر نشاط أصحاب الدعوات الكفرية.
وأشار كساب إلى أن تطبيق حد الردة على المرتدين إنما شرع لحماية الضعفاء في الدين من أن يتأثروا بمواقف المرتدين، ما يفضي إلى زلزلة عقائدهم، فكان الإسلام حريصا على تأمين مناخ النجاة لهم بقمع الخارجين منه وعليه، حتى لا يحدثوا فتنة في صفوف أبناء المجتمع المسلم.
وردا على سؤال حول موقع "حرية الكفر" من مبدأ حرية الاعتقاد، فقد بيَّن الدكتور كساب أن الإسلام جعل كل إنسان مسؤولا عن اختياره، وهو لا يُكره الناس على اختياراتهم، فمن اختار سبيل الكافرين فعليه وزر اختياره، لكنه في الوقت نفسه حظر الدعوة إلى الأفكار والمبادئ الكفرية، حماية لأتباعه من التأثر بتلك الأفكار والمبادئ.
هل للدولة حق حظر الدعوة إلى الكفر؟
من جهته أكدّ الدكتور جلال العوني، الباحث التونسي المهتم بالفكر الإسلامي دراسة ونقدا، أنه "لا علاقة للدولة بعقائد الناس، ويكفيها أن تنجح في توفير المناخ الملائم لحفظ أمن وكرامة وحرية الناس، مؤمنهم وكافرهم بلا أدنى تمييز بينهم".
وانتقد الدكتور العوني ما أسماه "أخطاء المسلمين" في اختزالهم الدين الإسلامي والقرآن الكريم في منظومة فقهية وقانونية، حتى أصبح الدين عندنا هو الشريعة والشريعة هي الدين، مع أن القرآن الكريم يحتوي على أكثر من ستة آلاف آية كريمة من بينها 200 إلى 500 آية ذات صبغة تشريعية بتقدير العلماء أنفسهم، موضحا أن الدين نظرة للكون والإنسان ونشأتهما ومآلهما مع جملة العبادات والأخلاقيات.
وعن أهمية حرية الاعتقاد في الإسلام قال العوني لـ "
عربي21": "من مقاصد الخلق جعل الإنسان خليفة في الأرض، والإنسان لا يمكن استخلافه ولا محاسبته يوم القيامة على أفعاله إذا لم تكن له ملكات يميز بها بين الحق والباطل، والخير والشر، وهذه الملكة هي أساسا تميّزُه عن بقية الخلق بملكة العقل، وهي تكون عاجزة عن الفعل إذا فقد الحرية عموما والإرادة والقدرة على الفعل".
وبناء على ما سبق وفقا للعوني، "فإذا كان الاعتقاد والتدين مقبولين دون الحرية فلا معنى عندئذ لليوم الآخر، ولا عدل لمقولة الثواب والعقاب. فالإيمان بالله وقبول الرسل والكتب والإسلام دينا هو نتيجة حرية اختيار سابقة على موقف الإيمان، وحرية الاعتقاد هذه هي نفسها التي تفضي للكفر والإلحاد، إذا كان أصل الإيمان والكفر واحدا وهو حرية الاعتقاد".
وتابع الباحث التونسي حديثه متسائلا: "فهل يُعقل أن يلغي الفرع "وهو اختيار الإيمان" الأصل الذي بني عليه؟"، موضحا أننا بهذا المنطق نفهم جليا لماذا قال تعالى (لا إكراه في الدين) وغيرها من الآيات المبينة لحرية اختيار الإنسان، والمتمثلة بأن الله وحده هو مالك يوم الدين وهو وحده صاحب الحساب والرحمة، وهو دون غيره من يحاسب عباده عن اعتقادهم وإحسانهم من عدمه يوم النشور.
وأوضح العوني أن "الدلائل القرآنية على ما سبق أكثر من أن تحصى، ويبقى الخيار الشخصي الحر والطوعي في الاعتقاد أو الإلحاد كما في الالتزام الشخصي الطوعي والحر بالواجبات الدينية هو المبدأ الأساسي في الحياة الدنيا، ولا يحق لأحد كان أن يجعل نفسه إلها حاضرا (تعالى الله عما يصفون) يحاصر حرية العباد التي منحهم الله إياها، فالله تعالى يحاسبهم على التزامهم من عدمه".
وخلص العوني إلى القول، إن "الدين التزام شخصي طوعي حر يحاسب عليه الله وحده يوم الحساب، فحولته المدونة الفقهية إلى إلزام خارجي يمر بالإكراه عبر السلطتين السياسية والدينية، فأصبحنا بهذا نكثر من المنافقين لا من المتدينين الحقيقيين، ونكتفي بقشور التدين من لباس ولحى وتقصير السراويل على حساب السماحة والأخلاق والقيم الإنسانية وعلى رأسها الحرية".
حرية الاختيار فردية وواجب الدولة حظر الدعوة إلى الكفر
في السياق ذاته، رأى الدكتور منصور أبو زينة، أستاذ التفسير وعلوم القرآن في جامعة اليرموك الأردنية، أن الآيات الكريمة المستشهد بها تتحدث عن حرية اختيار الإنسان كفرد، وهي تبين في الوقت نفسه مع غيرها من الآيات وأصول الشريعة العامة أن الإنسان مسؤول عن اختياره، ويتحمل تبعاته في الدنيا والآخرة.
وأوضح أبو زينة أن الإسلام لا يبيح حرية الكفر، بل يحذر الناس من ذلك، وأن من واجبات الدولة في الإسلام حظر الدعوة إلى الأفكار والمقولات الكفرية، مبينا أنه إذا أعطيت الحرية المطلقة لكل أحد في الدعوة إلى ما يشاء من الكفر والشرك والإلحاد، فإن هذه هي العلمانية بعينها وهي ليست من الإسلام في شيء.
وتساءل أبو زينة في حديثه لـ"
عربي21": "كيف يمكن للدولة الإسلامية التي ما قامت أصلا إلا لـ"حراسة الدين وسياسة الدنيا" أن ترعى الكفر وتحمي أهله، وتؤمن لهم الحريات كي يدعوا إلى كفرهم وشركهم؟".
تبقى مسألة حرية الاعتقاد وما يتولد عنها من رؤى وتطبيقات، وفي مقدمتها حرية أصحاب الأفكار والمقولات التي يصنفها الإسلاميون على أنها كفرية وإلحادية، محل نظر وبحث في خضم ما تشهده المجتمعات الإسلامية من صراعات فكرية طاحنة، بين نموذج إسلامي (كحركة النهضة التونسية) يتسامح مع تلك الاتجاهات ويقبل بها كمكون أساسي من مكونات المجتمع، ونماذج أخرى ترفض الفكرة من أساسها وتشتد في مهاجمتها لذلك النموذج الإسلامي المتسامح.