كتاب عربي 21

هل يمكن إعادة بعث الصحوات؟

حسن أبو هنية
1300x600
1300x600
تمخضت الولايات المتحدة في سوريا فولدت صحوات، فبعد أكثر من أربع سنوات على الثورة السورية لم تجد الولايات المتحدة وحلفاؤها كائنات معتدلة ضمن فصائل المعارضة المسلحة السورية، الأمر الذي يؤكد افتقارها لرؤية استراتيجية واضحة حول المسألة السورية، ولم نعد نسمع  معزوفة "أصدقاء سوريا"، على مقام "الحجاز".

فقد بدا واضحا انتشار حالة "فوبيا" من مصائر الحل السياسي أو العسكري، والاستراتيجية المفضلة هي بقاء سوريا عضوا دائما في نادي "النزاعات التي لا يمكن حلها"، فعلى الرغم من البلاغة الخطابية الأمريكية باستحالة بقاء الأسد على رأس السلطة في سوريا، إلا أن الممارسة الأمريكية تتماهى مع خطاب الأسد حول موضوع "الإرهاب".

حيث أصبحت الأولوية تتعلق بقتال "الإرهابيين" المؤكدين وممثليهم البارزين في تنظيم الدولة الإسلامية وجبهة النصرة، بانتظار توسيع دائرة "الإرهابيين" المحتملين من بقية الفصائل إذا لم تدخل في حرب "الإرهاب".

لقد ساهمت السياسات المترددة للولايات المتحدة تجاه نظام الأسد، وصمتها عن النزعة التوسعية الإيرانية، وصرف النظر عن المليشيات الشيعية المقاتلة في سوريا في تنامي الحركات الجهادية الراديكالية، فعمليات فرز قوى المعارضة على أسس اعتدالية أمريكية أسفرت عن تنامي أطروحات "الجهاديين" في ظل نزاع مسلح طويل الأمد بدأ يأخذ أشكالا هوياتية دينية خطيرة.

عقب سنوات من البحث الأمريكي المضني عن المعتدلين في صفوف المعارضة السورية المسلحة، توصلت إلى قناعة بأن المعتدلين كائنات نادرة توشك على الانقراض في سوريا، ذلك أن المواصفات الأمريكية للاعتدال تنص على ترك قتال النظام السوري والتفرغ لقتال أعداء الولايات المتحدة من الإرهابيين، فعندما بدأ الجيش الأمريكي بتدريب مقاتلي المعارضة السورية "المعتدلة" في الأردن وتركيا، اشترط الالتزام بمحاربة تنظيم "الدولة الإسلامية"، فالبرنامج التدريبي الطموح لواشنطن يهدف إلى تدريب خمسة آلاف معارض سنويا،  لكن العسكريين الأميركيين يواجهون صعوبات في اختيار المرشحين بشكل دقيق إذ تسعى واشنطن إلى تقليص مخاطر ارتداد هؤلاء المقاتلين عليها.

حالة عدم الثقة بعناصر المعارضة السورية المسلحة وفي مقدمتها "الجيش الحر"، كانت واضحة تماما؛ إذ يصعب إقناع فصائل المعارضة بترك قتال نظام الأسد الذين حملوا السلاح للتخلص منه أساسا، كما أن العقيدة القتالية لفصائل الثوار لا تسمح بقتال فصائل قريبة منه ميدانيا وشاركت معه في تحرير مناطق عديدة كما هو حال جبهة النصرة، وقد بدت خطة الولايات المتحدة شاقة في البحث عن معتدلين بالمواصفات المطلوبة؛ إذ تشير أرقام وزارة الدفاع الأخيرة إلى ترشح 3750 سوري لهذه التدريبات نجح منهم في اختبار الاعتدال 400 فقط في مرحلة التدقيق الأولي، وقد يتقلص العدد في الاختبار النهائي إلى 40 معتدلا.

لقد فشلت عمليات التجنيد على أسس مدنية فصائلية في العراق وسوريا، وباتت مسألة تسليح العشائر سياسة مفضلة، وأصبحت العشائر ركنا أساسيا في حرب ما يسمى "الإرهاب"، فسياسات الحرب على الإرهاب الأمريكية في دول العالم العربي تستند إلى مقاربة براغماتية عبر المقاربة الاستشراقية/ الأنثروبولوجية  التقليدية في تكتيكات مكافحة التمرد، وقد ازدهرت هذه المقاربة في سياق السياسات الكولينيالية في إطار استراتيجية الهيمنة الشاملة للغرب الإمبريالي على باقي دول العالم.

الأسس الاعتدالية الأمريكية أربكت أكثر الفصائل اعتدال وقربا من واشنطن ممثلة بــ "الجيش الحر" فقد وصف المستشار القانوني للجيش السوري الحر أسامة أبو زيد، المعايير الأميركية في انتقاء المشاركين في برنامج تدريب المعارضة السورية لقتال الدولة الإسلامية بـالغموض وغياب الوضوح، حيث أكد أن "البرنامج استبعد مؤسسات المعارضة السورية، والأجسام العسكرية في الداخل، التي أثبتت جدارة في قتال تنظيم الدولة الإسلامية بعدة مناطق سورية، وخاصة في ريف حلب الشمالي". 

وأشار أبو زيد إلى أن "برنامج تدريب وتجهيز المعارضة السورية الذي طرحته الولايات المتحدة يقوم على سياسة "تفتيت المجموعات"، وذلك من خلال انتقاء العناصر التي ستشارك في البرنامج بشكل فردي، وتوزيع أفراد المجموعة الواحدة على مجالات تدريب مختلفة،  كما أشار إلى أن المسؤولين الأميركيين صرحوا بأن خطة التدريب معدة لقتال تنظيم الدولة الإسلامية فقط، وانتقد أبو زيد "اقتصار البرنامج على محاربة الدولة الإسلامية، في حين أن الشعب ثار في البداية على نظام الأسد.

تبدو عملية إعادة بعث الصحوات بأسماء جديدة خيارات براغماتية ضارة تماما نتجت عن صعوبة إرسال قوات أمريكية أو عربية برية، فقد تغيرت الظروف الموضوعية في العراق كما تغيرت في سوريا، إلا أن الاستراتيجية الأمريكية لا تزال تتبنى مقاربة ترتكز على إعادة بناء وتأهيل القوات العراقية والكردية، وتأسيس قوات سنيّة  تحت مسمى "الحرس الوطني"، وهي مليشيات عشائرية سنّية مسلّحة تنتظم خارج إطار الجيش والشرطة الرسميين، وهي تسمية تحاول التعميّة على مسمى "الصحوات"، وتوظيفها في عقيدة "مكافحة التمرد" التي اعتمدها الجنرال ديفيد بترايوس في العراق لمواجهة تنظيم الدولة الإسلامية بين 2006 ــ 2008، وقد جاء تعيين الجنرال جون آلن كمنسق لجهود التحالف استكمالا لذات النهج، في مكافحة التمرد.

أحد الصعوبات في تأسيس "صحوات" جديدة من أبناء العشائر، هو التغيرات العميقة في بنية المجتمع العراقي والسوري وتفتت القبيلة وتفكك الدولة، وضعف الثقة بالسياسات الأمريكية وحليفتها العربية، لكن الصعوبة الأكبر تتمثل بتراكم الخبرة التاريخية لدى الحركات الجهادية عموما وتنظيم الدولة الإسلامية خصوصا ومعرفتها اللازمة بنهج حرب الإرهاب وتكتيكات مكافحة التمرد الخاصة بتوظيف العشائر. 

فقد عمل تنظيم الدولة الإسلامية على منذ سيطرته على الموصل في حزيران/ يونيو 2014، على استثمار وتوظيف العشائر لصالحه، حيث تمكن من إدماج بعضها، واستمالة بعضها الآخر، وعمد أحيانا على خلق انقسامات أو تعزيزها ووضعها في حالة من الاستقطاب والفرز المستمر، أما العشائر التي حسمت خياراتها بالتصدي للتنظيم والتنسيق مع الولايات المتحدة أو الحكومة العراقية أو الدول الإقليمية، فقد تعامل معها تنظيم الدولة الإسلامية دون رحمة، حيث قام التنظيم، في آب/ أغسطس 2014، بإعدام اكثر من 700 شخص من عشيرة الشعيطات في محافظة دير الزور في شرق سوريا، الأمر الذي تكرر في 24 تشرين أول/ أكتوبر 2014 بإعدام أكثر من 381 شخصا من أبناء عشيرة البونمر في محافظة الأنبار غرب العراق، ولا تبدو اختيارات تنظيم الدولة عشوائية في عقاب أشد العشائر عداء للتنظيم، فهو يبعث رسالة مخضبة بالدماء للصحوات الأخرى.

خلاصة القول أن البحث الأمريكي عن معتدلين لقتال تنظيم الدولة الإسلامية أولا والنصرة ثانيا دون البحث في الأسباب الموضوعية التي أدت إلى صعودها في المنطقة، سوف يكون مصيرها الفشل، وعلى الولايات المتحدة إعادة النظر في سياساتها التدميرية المتعلقة بالعالم العربي وقضاياه، وذلك بالتخلي عن دعم الأنظمة الاستبدادية تحت ذريعة الاستقرار و"حرب الإرهاب"، والتحلي بالإنصاف في النظر إلى القضية الفلسطينية، والكف عن النهج الازدواجي في التعامل مع إيران وأذرعتها المسلحة، أما الارتهان لمزيد من عسكرة المنطقة وإعادة بعث الصحوات فهي فضلا عن عدم نجاعتها تؤسس لمزيد من الفوضى وعدم الاستقرار.
التعليقات (0)