قال الأستاذ محمد جلال كشك في كتابه "ودخلت الخيل الأزهر" إن الفرنسسين وهم طليعة الاستعمار الغربي تأكدوا من استحالة غزو
مصر في وجود كيان كالأزهر الذي كان روح الأمة وقلبها النابض؛ وكان القرار بعد ذلك بتدمير تلك المؤسسة وقام بذلك رجلهم في مصر محمد علي باشا. ومن المعروف أنه في الغزو الفرنسي لمصر ادعى
نابليون الإسلام وحاول احتلاله من أعلى على أنه الخليفة المنتظر لاسترجاع مجد "الإسلام"؛ هذا نظرا لإدراك الفرنسيين والغرب بصفة عامة تأثير الدين في المجتمعات الإسلامية.
وفاجأنا محمد علي الثالث أثناء زيارة
فرنسا باختياره لنابليون ليزور قبره وكأنه يرسل له رسالة أنك أستاذي ومعلمي ومرشدي في احتلال الأوطان والأديان، وأنا على العهد والميثاق الذي أعلنته أنت في نهايات القرن الثامن عشر من مصر وسأكمل طريقك وسأدمر هذه الحضارة تحت عباءتك وأفكارك.
كان منهج نابليون وهدفه هو احتلال القسطنطينية باستخدام الجنود المسلمين العرب دفاعا عن "الإسلام"؛ وهذا الهدف كان يحتاج للكثير من الجهد لعمل مضامين جديدة تحمل عناوين إسلامية؛ ويحتاج هذا للكثير لفصل المظاهر الإسلامية كالعمامة والكلام بلسان عربي واللحية وغيرها عن الجوهر المليء بالقيم والتاريخ المجيد والأفكار العظيمة والمليء بأصول حضارية وفكرية هائلة؛ وهذا هو جهد مئتي عام من العمل المتواصل علي كافة المحاور حتى استطاعوا احتلال الإسلام مرتدين عباءته واستطاعوا إنتاج وعمل مضامين جديدة تحت تلك العباءة.
استطاعت قوى متعددة بالمجتمع المصري وغيره من المجتمعات الإسلامية الوصول إلى هذا الهدف عبر عدة محاور؛ قامت أولا بتدمير الشخصية المصرية عبر تعليم فاسد وفقر مدقع وتدجين متواصل؛ وقامت بتدمير كافة القوي المجتمعية المحتمل أن تقاوم التغيير المفروض علي هذا المجتمع ومهدت العقل الجمعي المصري للقبول بما هو آت.
ثم قامت بضرب التاريخ الحقيقي بمنصات من التشويه والتزييف وأصبح بارباروسا قرصان وهارون الرشيد رجل ماجن وسليمان القانوني أعظم ملوك العثمانيين زير نساء وسيرة عقبة بن نافع تدعو للعنف .
تحول الأفغاني ومحمد عبدة وعبد الله النديم إلى مجرد أسماء عبرت على تاريخ مصر وفي انتظار أن يلقوا مصير عقبة بن نافع وصلاح الدين؛ بينما أصبح لويس عوض وعلي مبارك والطهطاوي رموزا "للتنوير"؛ تحول التغريب إلي تنوير وتحولت الرغبة في صناعة حضارة تنتمي للمجتمع إلى تخلف.
وأصبح التاريخ وهو أحد صانعي الوعي والحضارة مكتوب بأيدي آخرين وأصبح مستقبليه لا يجدون في أذهانهم ما يقاومون به هذا الهجوم الهائل من كافة المحاور.
وبعد تدمير القدرة على المقاومة بدأت مرحلة الاحتلال الكامل باحتلال مؤسسة الأزهر وهي محاولات مستمرة منذ محمد على الأول حتى استطاع محمد علي الثاني في خمسينيات القرن الماضي تأميم الأزهر وأصبحت مسألة إخضاعه تماما مسألة وقت بعد التخلص من البقية الباقية من العلماء الحقيقيين الموجودين في قيادة الأزهر؛ وعلى الجانب الآخر تم صناعة مؤسسات معممة موازية للاستعانة بها وقت الحاجة؛ وصناعة "علماء دين" و"معممين" لإطلاقهم علي العقول المنتهية المسطحة في التوقيت المناسب لبناء مفاهيم الدين الجديد تحت عمامة الشيوخ والكاكولا الأزهرية الشهيرة.
الآن في عهد محمد علي الثالث أصبحت الأمور مهيئة للدفع بهم بكل قوة لصناعة الدين الجديد الذي لا يؤمن بالأحاديث النبوية والذي لا يعترف بالأئمة الأربعة والذي يري أن الجميع يدخلون الجنة وأن محمدا ليس بالضرورة أن تؤمن بأنه رسول؛ وربما يفاجئوننا بكلام قريب في نصوص القرآن.
ولا يمكننا أن نعفي كل القوى الإسلامية السياسية والدعوية من تحمل جزء من الجريمة التي حدثت فهي انساقت وراء معارك الدفاع عن العباءات والمظاهر وتركت المضامين الحقيقية يتم التلاعب بها مقتنعة أنها مضامين غير قابلة للتغيير. فخاضت معارك لا تنتهي حول الحجاب والنقاب والوضوء والمساجد وتركت معارك الوعي والإدراك للمفاهيم الأساسية؛ تركت الشعوب في الجهل وتحت سيطرة وعي زائف واهتمت بدروس الطهارة والوضوء علي حساب الوعي والصمود والمقاومة؛ تركت تفسير المعاني في سيرة النبي وزرع القيم التي جعلت الحضارة الإسلامية تقود العالم واهتمت بالأحداث وسردها دون معانيها العميقة.
خسرنا كثيرا وخضنا معارك وهمية وأضعنا سنوات طوال في عبث وكان الأجدى أن نعرف جيدا معركتنا وأن نحافظ على بنية الفكر الإسلامي بدلا من الحفاظ على مظاهره التي استخدمت لهدمه.
فالمحجبات بل والمنقبات الآن دون أطر فكرية لتلك المظاهر أصبحن عبئا على الفكر الإسلامي؛ رأينا كيف حرقت سيدات محجبات كتبا تنتمي للفكر الإسلامي ورأينا منقبة ترقص على أنغام العنصرية في استفتاءات الدم ورأينا شيخا معمما يطعن في الأصول العقدية ورأينا "مفكرا إسلاميا" يسب الأئمة؛ والمصريون أصبحوا إلا من رحم الله مسطحي العقول لا يستطيعون ولا يمكنهم إلا استقبال ما يوحى إليهم من الحواريين الجدد.
هذه هي مظاهر الدين الجديد الملتحف بعباءة الإسلام؛ وهؤلاء هم حواريو نابليون الذي وضع لبنتهم محمد علي الأول وثبت أركانهم محمد علي الثاني وأطلقهم يبنون قواعد الدين الجديد محمد علي الثالث.
إن محمد علي كفرعون هو فكرة أكثر من مجرد شخص؛ وكل محمد علي حكم مصر كان لبنة في صراع بناء الدين الجديد وكلنا نتحمل هذا الوزر كل بحسب مساهمته في الوصول إلى ما نحن فيه. وعلينا إدراك أن المعركة في مراحلها الأخيرة وأنه لن يكون هناك محمد علي رابع.
لقد عاد الإسلام غريبا كما قال لنا رسولنا محمد صلى الله عليه وسلم؛ وعدنا غرباء في مجتمع يطلق على نفسه متدينا؛ ربما هو متدين ولكنه بالتأكيد ليس الإسلام الموجود بالقرآن ولا بالحديث ولا بالفقه ولا بأفكار المجددين كالأفغاني وحسن البنا وغيرهم؛ ولكنه إسلام نابليون ورجاله في مصر.