قضايا وآراء

فإن كان ولا بدّ فحرب باردة!

وليد الهودلي
1300x600
1300x600
باتت المنطقة على بركان ثائر توشك صراعاته الداخلية ألا تبقي ولا تذر وتقضي على مستقبلنا مئات السنين، والسؤال: لماذا نحن العرب والمسلمين وعلى أسرع ما يكون نسخن حروبنا وعلى أعلى درجات التسخين دون أن نفكر بأن هناك ما يسمى الحرب الباردة؟ ولا نفكر طويلا بمآلات حروبنا المأساوية الإنسانية منها بالقتل والدمار والانحدار الأخلاقي والقيمي ثم حياتنا الاقتصادية والاجتماعية ورضانا بالبقاء في ذيل التخلف الحضاري بالرجوع إلى عصور التخلف والدمار.

الحرب الباردة مصطلح سياسي راج لتوصيف العلاقة بين أمريكا وحلف الأطلسي مع الاتحاد السوفيتي وحلف وارسو، كان بالإمكان لو فلت العقل من عقاله أن يفني كل منهما الآخر، وكان ما لديهما من قدرات عسكرية نووية وتقليدية أن تفجر العالم كله عدة مرات. 

لم يستسلم طرف للآخر، ولم يلجأ أحدهم لإفناء الآخر والإعلان عن عاصفة الحزم، وعليهم يا رجال، لم يكن ذلك نتيجة لنقصان النخوة أو شجاعة الشجعان، وإنما كان ذلك إدراكا منها بمصير شعوبها وما ستسببه مثل هذه النخوات والعنتريات، التي لا مكان لها في قاموسهم، وكذلك خضوعهم لموازين القوى التي كان لكل طرف أن يُدخل الطرف الآخر بحسابات الربح والخسارة.

 والخسارة إن حصلت فستكون على الجميع وكان أيضا لعلاقة الحاكم بالمحكوم وآن للشعب الذي سيدفع الثمن، إن حلت الكارثة، أن يكون له دوره في التأثير على صناعة قرار الحرب أو السلم. 

وهذه للأسف لا تتوفر عندنا اذا كانت الحرب في الداخل العربي والإسلامي، ولا يخشى الحاكم محاسبة شعبه بعد الدمار الذي سيلحقه بهم نتيجة مغامراته غير المحسوبة، سيخرج الإعلام التمجيدي بالقول: لم يكن بالإمكان أفضل مما كان، وسيشيد بالقرارات الحكيمة والرشيدة، وسيصفق الجمهور الذي يصفق دائما، وسنقول بأننا خرجنا أقوى مما كنا، وسيبقى الحاكم حاكما، انهزم أو انتصر، والمحكوم محكوما لا يملك إلا التسليم بقدره مع هذا الابتلاء خاصة بعد مرور ما سمي بالربيع العربي بأمن وسلام لهؤلاء الحكام والزمرة المستفيدة من حكمهم. 

وعلى أشدها توظف مسرحية سنة وشيعة، مسرحية تغيب قليلا ثم يعاد إخراجها من جديد كلما دعت الحاجة لإثارة ما في الصدور، وعندما تخوف العرب بعد الثورة على الرجل الأمريكي الأول في المنطقة "شاه إيران"، وبعد أن تبدل الحكم هناك بثورة يمكن تصديرها للدول القريبة التي تخشى أي نسيم للثورة قد يدغدغ عواطف شعوبها النائمة والمسترخية. 

كان لا بد من إخراج المسرحية هؤلاء شيعة ونحن سنة، وعندما تحركت حركات من مرجعيات إسلامية، منها لمقاومة الاحتلال، ومنها لتغيير الأوضاع، كان لا بد من اتهامها بأنها موالية للشيعة، وبالتالي إخراج القصة من جديد، وإسقاطها على هذه الحركات. 

خذوا هذه النظرة المتفائلة بداية، ولكم أن لا تصدقوني: إيران الثورة تختلف كليا عن إيران الشاه، الأخيرة، استبدلت بالسفارة الإسرائيلية في طهران سفارة فلسطينية، والأخيرة دعمت القضية الفلسطينية سياسيا ومعنويا وماديا، خاصة الحركات السياسية. 

إيران الأخيرة لم تعترف بإسرائيل، وأكدت ذلك مرارا وتكرارا، رغم أن كثيرا منا يعترف ويقيم علاقات وطيدة تجارية وسياسية وأمنية وغير ذلك. 

إيران تبدي استعدادها الدائم للوقوف مع العرب وحركات المقاومة في مواجهة العدوان الإسرائيلي قولا وفعلا، وثبت هذا في عدة حروب شنتها إسرائيل على الفلسطينيين والعرب.

 إذًا هي عمق أمني للعرب، ولمَ لا تكون كذلك ودولة الاحتلال تسابق في عمقها الغربي والأفريقي والآسيوي وكل من تطالها يدها السياسية والدبلوماسية وعلاقاتها الخارجية. لم لا وقد كانت عمقا لدولة الاحتلال أيام الشاه، تم إخراج حليفهم الاستراتيجي والشرطي الأمريكي في المنطقة "شاه إيران"، وقطع الاحتلال من عمقه هناك، لم لا تكون عمقا لنا والحكام الجدد لإيران، يؤدون ذلك سرا وعلانية، وقد أثبتت ذلك بدعمها لحركات المقاومة لهذا الاحتلال، دعما سياسيا وعسكريا، ودفعت أثمانا باهظة عالميا نتيجة لهذا الدعم.

وكذلك فإن هناك تاريخيا محورا أمريكيا في المنطقة سمي بدول الاعتدال، وهذه تتناغم كليا مع السياسة الأمريكية، وهي ولا تحيد عنها قيد أنملة، وإذا كان هناك هامشا للاستهلاك المحلي من التصريحات والزينة الإعلامية وتلميع زعامة هذه البلدان، فقد انتهى هذا العهد بعد أحداث الحادي عشر من سبتمبر، وبعد خطاب الرئيس الأمريكي جورج بوش الذي قال فيه: "من ليس معنا فهو ضدنا" وأصبح لزاما على هذه الدول أن تعلن مع أمريكا حربها على الإرهاب بالمفهوم الأمريكي للإرهاب. 

هذا المحور الأمريكي كان مقابله محور الممانعة، الذي وقف مع المقاومة اللبنانية والفلسطينية، والذي مثلته من الدول سوريا وإيران في المنطقة، وسمته أمريكا، بالإضافة إلى كوريا الشمالية، بمحور الشر، وقد نجح عمليا هذا المحور بدحر الاحتلال من لبنان، ووضع حد للاحتلال من ابتلاع غزة، وخلق حالة من توازن الردع على الحدود الشمالية والجنوبية لكيان الاحتلال الإسرائيلي؛ لذلك فإننا في تقييمنا للأمور لا يمكن نسيان هذه التقسيمة من تفكيرنا السياسي.
 
لاحظوا أني قلت حسب النظرة المتفائلة!! 

ومقابل هذه النظرة المتفائلة (السياسية) لنذهب إلى النظرة الثانية التي عماد قولها: أن هناك فسطاطين: واحد سني، والثاني شيعي، وقد وجدت الدول التي تمثل السنة نفسها أمام خطر التمدد الشيعي، خاصة بعد تدخلات إيران الأخيرة في سوريا، وتدخلها الأسبق في العراق، ثم هذا التدخل السافر في اليمن، من خلال دعم جماعة الحوثيين على أساس طائفي شيعي، وهذا يؤدي إلى تقويض دعائم الأنظمة السنية التي تقودها السعودية، حيث إنها وضعت كل ثقلها في سوريا، ولم تفلح بحسم الصراع هناك لصالحها. 

وهذا الافتراض نسي أو تناسى القسمة الأولى للمنطقة، وتعامل مع المنطقة وكأن أمريكا وربيبتها غير موجودة، أو أنها، وفق الأولويات، تقل خطرا عن المد الشيعي، وهي من واقع علاقتها بالفعل ترى أنها قد تعايشت مع أمريكا وربيبتها في المنطقة، وقبلت بالأمر الواقع منذ عشرات السنين، وتمكنت من المحافظة على عروشها من خلال تمتين العلاقة بأمريكا، والسير مع هذا الفلك الآمن لحكامها وحكوماتها، القاتل لتطلعات شعوبها ومصالح بلدانها.

وخاتمة القول: 

هناك صراع شديد بين الطرفين، بغض النظر عن مسمى كل طرف، حسب التصنيفين السابقين، أي سواء كان ذلك محور الاعتدال (الفلك الأمريكي) مقابل محور الممانعة (المقاومة)، أو حسب التصنيف الثاني، محور السنة مقابل المد الشيعي، ولا أقول بأن بهذه القسمة ثنائية حادة أن أثبتت الأولى نفيت العامل الثاني كليا أو العكس، فلكل عامل نسبته من التأثير ولكن الناس يختلفون في تحديد النسب.

 والصراع على النفوذ وبسط السيطرة، خاصة في المناطق الرخوة أمنيا واقتصاديا، موجود بين الطرفين، ولن تكون النتيجة حسب هوى أي طرف من الأطراف، لأن الحزم والحسم ليس سهلا، ولن يقبل طرف بالرضوخ للآخر، ويبقى الذي يدفع ثمنه الباهظ الناس البسطاء. 

وإننا قد وصلنا إلى هذا الدرك الأسفل من هذه الحروب السوداء، وقد قطعنا أشواطا لا بأس بها من ضحالة التفكير في مصالح الأمة، خربنا على أنفسنا أولا العمق الأمني المفترض، كما قلنا في البداية، ولم نستطع بسط النفوذ ثانيا من خلال التنافس الشريف في دعم المناطق الفقيرة والمهددة بالصراع، لم يدخل الطرفان ساحة التنافس. 

فإيران والسعودية لو تنافستا تنافسا شريفا في دعم اليمن، و"صحتين" على الذي يكسب خيار الناس من خلال دعم اليد العليا، وتمرير السياسة من خلال الدعم المادي، كما تفعل الدول المانحة فعلها، بمساعداتها المادية للمجتمعات الفقيرة والمنكوبة، ولم نفعل هذا أيضا، ثم رحنا للحرب المدمرة قافزين عن الحرب الباردة، فإن كان ولا بد من حرب فلتكن حربا باردة، يأخذ الصراع شكلا طويل الأمد ويتدفق الدعم من كل الأطراف، وتعمل الثقافة والإعلام فعلها، ثم تكون الغلبة لما يختاره الناس أخيرا.

آن الأوان للعرب والمسلمين أن يبدؤوا من حيثما انتهى إليه الآخرون، لا أن يعودوا إلى جاهليتهم الأولى، ويعود التناحر القبلي والطائفي بمعارك طاحنة يوظف فيها الدين والمذهب لإراقة دماء الناس، فالذي جاء ليحقق سعادتهم إذا به يسحقهم بهذا الاستخدام الفظ من قبل هؤلاء الذين لم يفقهوا الدين ولا السياسة.
التعليقات (0)