لم نسمع أن بلدا في العالم لقب بالسعيد سوى اليمن القديم. وما من ريب في أنه كان يملك من أسباب السعادة ما أساغ وصفه بتلك الصفة التي هي الغاية القصوى لكل إنسان وكل مجتمع منذ أن خلق البشر إلى أن يرث الله _ سبحانه _ الأرض ومن عليها سعداء وأشقياء ومن هم بين تينك الصفتين.
وأول أسباب سعادة البشر أن تتوافر أسباب عيشهم في المأكل والمسكن والملبس في سعة ويسر، وبعد ذلك تأتي المكملات التي تحسب ترفا، وفيها تتمايز أذواق الناس وميولهم. وفي الجانب الأول توافر لليمنيين القدامى وفرة في الإنتاج الزراعي لخصوبة أرضهم ولكميات المطر المناسبة التي تسقط عليها. ومن شواهد وفرة إنتاجهم الزراعي ما يقال من أن المرأة كانت تسير تحت الأشجار مسافة فتمتلئ القفة التي تحملها على رأسها ثمارا دون أن تقطف هي أي ثمرة منها. وفي اليمن كانت الجنتان اللتان ذكرتا في الآية الخامسة عشرة من سورة " سبأ "،ويقال إن آثارهما ما انفكت ماثلة حتى يوم الناس هذا. وبناء السدود، ومنها سد مأرب، من شواهد الازدهار الزراعي في اليمن القديم. وظهرت في اليمن أربع حضارات، هي المعينية والقتبانية والسبأية والحميرية، والحضارات من آيات السعادة بمعانٍ كثيرة، والفقراء التعساء على كل حال لا يصنعون حضارات، والدليل على ذلك، حتى من اليمن القديم، أن كل حضاراته انهارت لعوامل اقتصادية. وفي الصناعة والفن لليمن القديم سجل باهر ناصع حيث صنع الثياب بأنواع وأصباغ مختلفة، وفي الشعر العربي الجاهلي لا يشرح اسم ثوب إلا ويوصف بأنه يماني . وأكبر شاهد على سعادة اليمن القديم أنه كان من أكثر بلاد جزيرة العرب سكانا، وميل الناس للسكن في بلد يدل على حسن الحال ودواعي الاستقرار، وعندما حدث خلاف ذلك عند انهيار سد مأرب حدثت الهجرات من اليمن صوب الشمال حتى الشام مثلما فعل الغساسنة.
الأحداث الحالية الدامية في اليمن وراء العنوان المتسائل عن عدم سعادة اليمن الحديث، أي عن تعاسته بمكشوف الكلام؟ وهي ظاهرة غريبة فعلا، ويضاعفها غرابة أن اليمن يجاور ست دول عربية من بني جلدته إن لم يكن سكانها سعداء اقتصاديا على الأقل فهم ليسوا أشقياء، وعند بعضها وفرة في المال. وتمضي الغرابة في تضاعفها حين يكون سبب تلك السعادة الاقتصادية والوفرة المالية في دول الجوار اليمنى مصدرهما واحد هو النفط والغاز. والسؤال الذي تنتجه تلك الغرابة المتضاعفة: بما أن أرض اليمن (خمسمائة وخمسة وعشرون ألف كم) تماثل في خصائص تربتها بقية أراضي دول جزيرة العرب؛ فلم لا يستخرج منها نفط وغاز يجعل اليمن في بحبوحة عيش مثل تلك الدول؟ النفط ينتج الآن بكميات تجارية محدودة في ثلاث محافظات هي مأرب وحضرموت وشبوة، فهل خلت المحافظات الأربع عشرة الأخرى منه؟ هل هناك معوقات خفية للتوسع في إنتاج النفط في اليمن حتى لا يغتني ويقوى، وليظل فقير جزيرة العرب الوحيد حيث لا يكاد يصل دخل الفرد السنوي فيه لـ300 دولار، وهو دخل متدنٍ جدا بالمعيار العالمي الذي يعتبر الفرد تحت خط الفقر إذا كان دخله اليومي دولارين. أسباب استبقاء اليمن فقيرا ضعيفا كثيرة، وهي عربية ودولية. ونحن إذ نحدد الأسباب العربية والدولية لا نعفي اليمن شعبا وأحزابا وحركات سياسية وحكومات من عظم المسئولية عن فقره وضعفه. في قدرة اليمن الحديث أن يكون سعيدا مثلما كان قديما، وما أكثر الأسباب التي يمكن أن تفضي إلى ذلك مع تحفظنا العقلاني على الفهم الرومانسي الذي قد يظن أننا نقصده من السعادة التي نحسب اليمن الحديث قادرا على اصطناعها. ما نقصده تحديدا هو يسر الحال بمقياس أكثر الدول في الوقت الحالي، وألا يكون اليمن مضرب المثل في الفقر والضعف. وأسباب ذلك اليسر كثيرة، ومنها:
أولا: سعة الأراضي اليمنية. نحن في غزة خير من يعرف نعمة سعة الأرض؛ لأننا أكثر شعوب العالم شعورا بمحنة ضيق الأرض، وأي أرض تظل واهبة خير ونفع ولو كانت جبالا صخرية جردا أو رمالا ماحلة قُحْلا. سعة الأراضي اليمنية وتشابهها في خصائص تربتها مع بقية أراضي دول جزيرة العرب يعني أنها تحوي ثروة نفطية وغازية، ويجب أن يسعى اليمنيون لكشف لغز عدم كونهم دولة منتجة للنفط والغاز مثل دول الجزيرة الأخرى. وهذه الأراضي الواسعة يمكن أن تكون مصدر إنتاج زراعي كبير ومتنوع إذا أحسن التخطيط له، وتوفرت تقنيات الزراعة الحديثة. ويلاحظ خلل خطير في الإنتاج الراعي اليمني الحالي. 70 % حبوب ذرة وقمح وشعير، ولا ندري هل يكفي ذلك لحاجات السكان الغذائية أم لا، ولم نسمع أن اليمن مصدر للحبوب. وصلاحية الأرض اليمنية لزراعة البن، السلعة العالمية، تمنحه مصدر دخل كبير لو توسع في زراعة البن، وقضى على زراعة القات بكل مضارها الصحية والاجتماعية، ونعرف أن ذلك القضاء صعب، ويتطلب ثورة ثقافية.
ثانيا: طول سواحل اليمن 2000 كم، ومعنى طولها وفرة ثروة سمكية كبيرة. ويصدر اليمن السمك، لكن ما كمية ما يصدره؟ وما عائده المالي؟ كل الشواهد تشير إلى قلة الكمية والعائد، وهذا تقصير كبير يلام اليمنيون عليه. والبحر مصدر معادن أهمها النفط والغاز، ويمكن بالعزم والتخطيط أن يكون لليمن مصدران للنفط والغاز: البر والبحر.
ثالثا: موقع اليمن على الطريق البحري بين الشرق والغرب يكسبه أهمية عالمية كبرى، وهو وإن كان أطمع فيه الغزاة على مر التاريخ إلا أن يمنا غنيا قويا سيكون أقدر على الإفادة منه بما يخدم مصالحه الوطنية.
رابعا: ملايين اليمنيين عملوا ومازالوا يعملون في الخارج خاصة في دول الخليج، وهناك مئات الآلاف ممن يعيشون في الغرب. وكل أولئك منابع قوة اقتصادية ومعرفية، ولا يبدو أن اليمن كدولة أفاد من مواطنيه في الخارج إفادة مؤثرة، وهو مدعو للنظر في ذلك.
خامسا: اليمنيون أهل صنعة من قديم، وهم الآن يزاولون مختلف الصنائع في دول الخليج، ولو نموا صناعاتهم المختلفة في بلادهم لدرت عليهم ما تدره الصناعة على أهلها من عوائد مالية. اللافت بقوة أنهم على تفوقهم قديما في صناعة الثياب والتجارة بها في الجزيرة العربية أننا لا نجد في أسواق الخليج مثلا أي ثياب من صناعتهم مع أنهم يخيطون ثياب الخليجيين في البلدان الخليجية. أين هم من الصينيين الذين غمروا تلك البلدان بما تريد من تلك الثياب. وفي هذا وصل الصينيون حاضرهم في الصناعة بماضيهم؛ إذ كانوا في الماضي أهل حرف وصناعات مثلما وصفهم الجاحظ منذ اثني عشر قرنا قبل أن نعرفهم بإنتاجهم لكل ما صغر أو كبر مما يحتاج إليه الإنسان من مصنوعات.
سادسا: الشعب اليمني شعب حكمة وذكاء وسخاء. وبحق قيل إن الحكمة يمانية، والرسول _ صلى الله عليه وسلم _ قال: " الإيمان يمان "، ولكل ذلك استجاب اليمنيون لدعوة الإسلام بسرعة حين دعاهم إليها معاذ بن جبل وعلي بن أبي طالب _ رضوان الله عليهما _، ولا شك فوق حكمتهم وجنوحهم الفطري للدين الحق، أنهم رأوا في الدعوة التي جاء بها إخوانهم عرب الشمال مولد قوة وعزة لهم في مواجهة خطر الحبشة، وخطر فارس التي كانت تحكمهم عند ظهور الإسلام. وأهل الحكمة لا يليق بهم أن يكونوا أهل خلافات وشقاقات لا تنتهي تحرق الأخضر واليابس وتجلب الفقر والعسر، وأهل الذكاء لا يليق بهم ألا يكونوا مزدهرين ميسوري الحال لما لهم من قدرة على حسن التصرف وبراعة التدبير مهما تعقدت أمورهم وتصعبت سبلها صوب ما يريدون، والأسخياء عدوهم الألد الفقر لمنافاته لما جبلوا عليه من حب العطاء النفسي والمادي، وهم في المقام الأول ترهقهم الذلة إن نابتهم الحاجة إلى عون غيرهم، ومن ثم يستوجب عليهم أن يقاوموا غوائل الفقر، والله _ سبحانه _ لم يحرم بلادا من مصادر رزقها، والمعول على حكمة السعي والتخطيط السليم والبعد عن الفساد في استغلال تلك المصادر، وما أكثر مصادر رزق اليمن مثلما بينا سالفا حسب معرفتنا المتواضعة عنه، وذلك ما يمكن أن يجعله في يسارة ماضيه، بل أكثر يسارة بحكم تطور وسائل استغلال مصادر الرزق. المهم يجب أن يتخلص من واقعه الحالي الذي جعله أمثولة الفقر والضعف وأطمع فيه غيره حتى بني جلدته الأقربين.