أسفت لفوز مصر بالمرتبة الثانية في
سرقة الأبحاث عالمياً، وإن كنت قد حمدت الله سبحانه وتعالى، فمن نظر إلى بلوى غيره، هانت عليه بلواه، فهناك من الدول من فازت بالمرتبة الأولى. وإن كان هذا ذكرني بالذي مضى!
قبل عامين، استيقظ القراء المتابعين للصحف المصرية، على فضيحة من العيار الثقيل، لم تأخذ حظها من الذيوع والانتشار، رغم أن النشر كان في صحيفتين من أكثر الصحف انتشاراً: "الأهرام" الصحيفة العريقة، أو التي كانت عريقة، و"المصري اليوم"، الصحيفة التي نجحت مبكراً في أن تحتل مكانة في صدارة المشهد الصحفي، وتدفع صحفاً عتيقة للتواري، ستراً للعورات التي تبدت للناظرين!.
ففي يوم واحد، نشر
مقال في الصحيفتين، بنفس العنوان، والكلمات، والفصلة، والنقطة، والخطأ المطبعي، بيد أن اللافت أن المقال المنشور في "الأهرام" حمل اسم القاضية بالمحكمة الدستورية حينئذ "تهاني
الجبالي"، صاحبة الاسم الأكثر إثارة للجدل، بينما نشر نفس المقال في "المصري اليوم" باسم أكاديمية معروفة، لا يوجد أحد تخرج في كلية الإعلام بجامعة القاهرة، لم يعلن عن فخره واعتزازه، لأنه تتلمذ على يديها، وهي الدكتورة "عواطف عبد الرحمن"!.
ولم تستشعر "الأهرام" الحرج، لكن "المصري اليوم" استشعرته، ونشرت اعتذاراً لقرائها، وظلت الجريمة، عدة أيام بدون توضيح من "الجبالي"، إلى أن عادت "عبد الرحمن" من الخارج، فجاءت لكي تكحلها فأصابتها بالعمى!.
مما قالته "عواطف عبد الرحمن" تبريراً للجريمة، إن ما جرى هو توارد خواطر بينها وبين صديقتها "القاضية الكبيرة"، ربما لأنها تلتقيها كثيراً، وتتجاذبان أطراف الحديث، وتبادل الأفكار والمعلومات. ولكن لأنها وجدت أن هذا وحده لا يرتقي لكي يكون أمراً مقنعاً، فقد أردفت بأن تشابه المقالين يرجع لوحدة الفكر والاهتمام، فربما أطلعت المستشارة على نفس المرجع الذي اطلعت عليه هي، ثم أعطت تلاميذها الذين تخرجوا في الكلية "العريقة"، ويدرون "المصري اليوم" درساً، حول مفهوم "المقال البحثي"، الذي يختلف عن سلالة "المقال الصحفي"، وفي الأول يكون الرجوع للمراجع، وربما لا يشار إليها في النهاية، لأن الصحف غير المجلات العلمية، وأن "المقال الصحفي" لا يلزم كاتبه بالرجوع للمراجع!.
كانت الدكتورة "عواطف عبد الرحمن"، "تهرل"، من هرتل، يهرتل، هرتلة، أي يقول أي كلام، وبدت لي في مواجهة هذه الفضيحة، وهي في أرذل العمر، تتصرف كالذي يتخطبه الشيطان من المس، أو أنها تعاني ارتفاعاً حاداً في درجة الحرارة، دفعها لأن تقول كلاماً، أقرب ما يكون للتخاريف، وجاء درسها في "البحث العلمي" كما لو كان يبيح السطو على ما ورد في المصادر، فيتم نشره كمقال لكاتب آخر، بالكلمة، والفصلة، والخطأ المطبعي!.
"المصري اليوم"، لم تقبل هذا التبرير الساذج من الأستاذة الكبيرة، والتي توارت بعده عن الأعين، وظلت "القاضية الكبيرة" تصول وتجول على المسرح السياسي. وقد راعني وقتها وقد كانت في اشتباك مع جماعة الأخوان المسلمين، انحيازاً منها للعسكر، وللثورة المضادة، أن أحداً من الإخوان لم يلتفت لهذه الجريمة، وربما وقفوا عليها لكنهم كانوا يتصرفون بكبرياء المنتصر، فلم يكونوا بحاجة، لواقعة كهذه للإمساك فيها، وهي كفيلة بأن تسقط عن المذكورة الثقة والاعتبار!.
ليس هذا موضوعنا، فجريمة كالتي حدثت كانت تستدعي أن تهتز لها المحكمة الدستورية العليا، لأنها تنال من قيمة قاضية تنتسب لها، وأن تحقق فيما حدث كلية الإعلام، حتى وإن كانت "عواطف عبد الرحمن"، بحكم السن، ليست أكثر من أستاذ غير متفرغ بالكلية، لكن شيئاً من هذا لم يحدث يبدو لأن الدوائر المعنية، لم تكن ترى في الأمر جريمة تستدعي التدخل والتحقيق، ولو على غرابته، لنشر مقال واحد في يوم واحد، باسم قاضية، وباسم أكاديمية بحجم "عواطف عبد الرحمن"، وليست مجرد، صحفية تحت التمرين!.
مر الأمر مرور الكرام، ولا نعرف من كاتب المقال: "عواطف"، أم "تهاني"، أم كاتب ثالث؟، لكن الصمت ربما كان مبرره هو النظرة التي تحكم الأمور بعد ان أصبح يمثل من الذيوع درجة صار معها لا يمثل أمراً غريباً. وفي أجواء كهذه يصبح من الطبيعي أن تحتل مصر المرتبة الثانية في سرقة "الأبحاث العلمية"، ويصبح رد الفعل على النحو الذي ذكرته الدكتورة "فينيس جودة" وزير البحث العلمي الأسبق، من أنه يجد تبريراً من قبل الأساتذة الكبار، باعتباره يمثل وسيلة للترقي و"أكل العيش"!.
ما ذكرته "جودة" جاء في حوار معها، أجرته الزميلة "سلمى كحيل" ونشرته جريدة "فيتو"، وهي تؤكد في المقابلة أن "دراسة دولية" - لم تذكر الجهة التي أصدرتها ولم تسألها الصحفية - هي التي كشفت فوزنا بهذا الموقع المتقدم، الذي وصفته الوزيرة، بأنه "فضيحة علمية كبرى". ومع كونها كذلك، فإن الدوائر العلمية لم تهتز لها ولم تكترث بها، يبدو لأن الرقع اتسع على الراتق!.
سرقة "الأبحاث العلمية"، ليست ظاهرة مصرية، فقبل أيام قمت بطبع ثلاث دراسات علمية، حول موضوع معين، ومنشورة في ثلاث مجلات علمية ومن السعودية إلى الأردن، وبثلاثة أسماء، أحدهم جنسيته كما أوحى لي اسمه باكستاني، وعندما تهيأت للقراءة، اكتشفت أنها بحث واحد، الشيء الوحيد المختلف فيها هو العنوان!.
كما أن مصر عرفت ظاهرة "سرقة الأبحاث" منذ فترة طويلة، عندما أثيرت قضية رئيس جامعة عريقة، قدم ضده أحد الأساتذة بالجامعة دعوى قضائية يتهمه بالسطو على بحث علمي حصل به صاحبه على درجة الدكتوراه من نفسه الجامعة!.
سعيد الحظ، هو من أوقعه حظه وإمكانياته في يد أستاذ كبير، فكتب له الرسالة بنفسه، وكان هو بنفسه رئيس لجنة المناقشة المنوط بها منح الدرجة العلمية للطالب، وقد سمعنا عن هذا الجهبذ الذي كتب رسالة لأمير خليجي، مقابل مبلغ مالي كبير!.
وإذا كانت مكاتب إعداد الرسائل العلمية تعلن عن نفسها في الصحف وأمام الجامعات، فإن أصحاب "القسمة والنصيب" من الوافدين، صاروا يتعاملون مع ضعاف النفوس من الأساتذة المشرفين مباشرة، وثمن رسالة الماجستير في السوق السوداء لا يتجاوز الخمسين ألف جنيه بأي حال، تعتبر "فكة" للقادمين من بلاد "الرز"!.
كل هذا معلوم، لكن ما لم نكن نعلمه هو أننا صرنا في هذه المكانة المرموقة بين الدول في هذا المجال، وعبرت عنه "سلمى كحيل" في سؤال لها لـ "فينيس" حمل سخرية ربما لا تقصدها: "وما السر في تقدم مصر عالمياً في سرقة الأبحاث".
ما لم تسأله محررة "فيتو" هو ما اسم الدولة التي حصلت على المرتبة الأولى، وتفوقت عليناً "عالمياً"؟!.
عموماً غداً نحتفل ببلوغنا المرتبة الأولى بإذن الله، فلكل مجتهد نصيب!