أعظم ما أنجزت ثورات الربيع العربي أن رفعت الغطاء عن "عورات" النخب العربية المزيفة وكشفت الرباط الوثيق الذي يجمعها بهيكل الاستبداد وقد كانت الحارس الأمين لثقافته ولحملاته التغريبية فاستحقت بحق وعن جدارة لقب " نخب العار العربية" أو بتعبير " بول نيزان" " كلاب الحراسة " وهو عنوان مؤلفه الأشهر الذي أصدره سنة 1932 وفضح فيه التحاليل البائسة للنخب الفرنسية البورجوازية وتواطؤها مع النظام القمعي.
في تونس ومصر واليمن وسوريا وليبيا وغيرها من الدول العربية التي عرفت موجات الربيع العربي أو تلك الواقعة على تخومها واجهت نخبُ النظام حركةَ الجماهير العربية بشراسة بالغة وشنّت عليها أقذر أنواع التشويه والشيطنة فوصف سفير "ليلى الطرابلسي" - زوجة رئيس تونس الهارب- في اليونسكو شهداء "القصرين" على أمواج أثير فرنسي شهير " بالحثالة الأوباش" وذلك قبل يومين من هروب سيده وولي نعمته.
اليوم وبعد أن جاهر القسم الأكبر من النخب العربية العداء لثورات الشعوب المطحونة ها هي الموجة الثانية من الزلزال الكبير الذي يضرب المنطقة تكشف نوعية جديدة قديمة من "النخب الثورية" التي ترى في تقليم أظافر المخلب الإيراني عدوانا على اليمن في حين لم تر في استيلاء المليشيات الإيرانية على صنعاء وبغداد ودمشق وبيروت عدونا على السيادة العربية في أرض العرب. الفاجعة هو أن نوعية هاته النخب تحمل خطاب ما يسمى "بالإيهام بالمقاومة" و "الإيهام بالثورية" و"الإيهام بالمعارضة" بمعنى أن خطابها خطاب يحمل الخصائص البنيوية والمنهجية والمضمونية التي ينتظرها المتلقي العربي أي أنها تشتغل على أفق الانتظار لدى السامع العربي وهذا هو أخطر وظائفها.
فعندما كانت خطابات زعيم حزب الله الشيعي تُلقى على مسامع المتلقي العربي قبل الثورات الأخيرة كان أثرها يتجاوز المشرق والمغرب لتستقر في مخيال المواطن العربي المتعطش لأي صورة من صور الانتصار على الكيان الصهيوني. لكن الثورة السورية وحرب " إمبراطورية رعاة البقر" على شعب العراق كشفت الوجه الطائفي القبيح لهذا الحزب كما عرت زيف خطابه بعد أن أوغل في الجسد السوري الجريح كل أنواع الخناجر والسكاكين وقبله ذبحت المليشيات الشيعية في العراق كل من أعلن ولاءه لغير ولاية الفقيه مما دفع الكثير من العراقيين إلى تغيير أسمائهم العربية خوفا من الانتقام والاغتيال. خطاب المقاومة المزيف الذي صدّرته إيران إلى وكلائها في المنطقة العربية هو نفس الخطاب الذي صنع أكذوبة "جهاد النكاح" لشيطنة الثورة التونسية وتشويه المسلمات في تونس بيد الابن البار لآية الله الإيرانية وعبر منصّة الميادين التي تنفث سمومها في جسد الأمة ملتحفة بلحاف المقاومة والثورجية.
"ربيع العرب الأعظم " هو هذه الرجّة التي أعقبت سقوط رأس الاستبداد وهياكله السطحية المباشرة ورفعت الحجاب الذي كان يغطي المشارب الفكرية والمادية الخفية للنخب العربية الإعلامية والسياسية بوجه خاص. اليوم وعند كل رجة جديدة يرتفع الغطاء أكثر عن تعفن هذه النخب التي لم تخفِ مثلا رقصها على الدم السوري وعلى جثث أطفاله ولم تتردد في أن تطبل ولو ببعض الحياء لسقوط بغداد بيد المخابرات الإيرانية وحوزاتهم العلمية باعتبارها المخلب الضارب للمشروع الإيراني في المنطقة بل إن أحد الإعلاميين العرب المأجورين إيرانيا لم يتردد في نعت الثورة الليبية ثورة 17 فبراير المجيدة "بثورة النيتو" وهي التي أطاحت بواحد من أشرس الطغاة العرب. لم نفهم ساعتها وفي خضم الغبار الناجم عن الانفجار الكبير الذي ضرب المنطقة مشاربَ الجماعة ولم ندرك كيف نجحوا في تصدر المشهد الإعلامي والفكري العربي في حين غُيّب غيرهم في غياهب السجون. اليوم نتبــــيّن مع كل حركة جديدة كيف دُسّت هذه الجماعات دسّا في جسد الأمة وتمكنت من بلوغ مراتب متقدمة لهندسة وعي الشعوب والتحكم في ردود أفعالها. لقد نجحت "كلاب الحراسة " في تحويل صورة الطغاة العرب إلى زعماء من أبطال المقاومة والممانعة لكن سرعان ما ظهر أنهم من أكثر السفاحين دموية وقدرة على إبادة الشعوب كما يفعل وكيل طهران في أطفال سوريا. لقد نحجوا في إيهام الشعوب العربية بأكاذيب منها :
أن روسيا حليف للقضايا العربية وهي أول من اعترف بالكيان الصهيوني ومدّه بالسلاح وبالمهاجرين من أجل تحقيق الحلم الصهيوني في الأرض المسلمة المقدسة ثم دعمت روسيا أشرس الأنظمة الاستبدادية العربية ضد شعوبها من أجل صفقات الأسلحة التي تمدها بها كما مارست أبشع أنواع التطهير العرقي بحق المسلمين في جمهورياتها السابقة وقدمت لإسرائيل أكثر القادة عنصرية ضد العرب والمسلمين.
أما أمّ الأكاذيب فهي اعتبار إيران داعما للمقاومة وأنها عدو لإسرائيل في حين لم تتردد إيران في ارتكاب أعظم المجازر وحشية في حق شعوب المنطقة من خلال كتائبها العسكرية وفيالقها المقاتلة وعصائبها المتحركة في العراق حيث دشنت أكبر الفظاعات بدء بتصفية العلماء العراقيين وصولا إلى تطهير عرقي لم تعرفه المنطقة عبر تاريخها. أما في سوريا فقد مدّت نظام الأسد الإرهابي بكل أنواع الغازات السامة من أجل إبادة أطفال سوريا وعملت يد بيد مع "الشيطان الأكبر" من أجل القضاء على المقاومة السنية لفيالق الغدر الفارسية.
قلنا دائما أن أعظم إنجازات الربيع العربي هو ما كشفه على الأرض من زيف وتضليل وما قدمه للوعي العربي من وضوح في الرؤية وفى الرؤيا مما سيسمح ببناء وعي جديد سيقود الحركة القادمة حتما والتي ستكون مختلفة جوهريا عن سابقتها في وعيها بنفسها وبالآخرين.
حقق الربيع الأخير واحدة من أهم المكاسب التاريخية للوعي العربي المعاصر والحديث من خلال كشف الشبكات التي عليها تتأسس الدولة القمعية وتؤسس خطابها الخاص بها. في مقدمة هذه الشبكات يلعب الإعلام والمنصات المرتبطة به أخطر الأدوار في صياغة طبيعة الوعي الجمعي لمختلف الطبقات والمجموعات الشعبية داخل الدول العربية. فلم يكتف الإعلام الرسمي العربي باستثناءات قليلة جدا بالوقوف إلى جانب النظام الاستبدادي العربي قبل الربيع وبعده ومجاهرة الجماهير العربية العداء بل تجاوز هذا الدور إلى نشاط أكثر خطورة وذلك بصناعة كل أشكال التظليل والتزييف وخلق حالات نفسية ووجدانية خادمة لمصالح أعداء نهضة الأمة في الداخل والخارج.
التطور الأبرز في الأداء الإعلامي العربي هو تحوله من إعلام السلطة أي باعتباره مكونا هندسيا خارجيا في خدمة النظام إلى مكون وظيفي داخلي هو السلطة نفسها. فالإعلام الانقلابي هو اليوم سلطة ما قبل السلطة وما بعدها أي أنه يتكفل بالمسافة السابقة لإنجاز السلطة أو للفعل السلطوي وكذلك بالمسافة التي بعدها بصورة خاصة فيستبق إعلام الاستبداد الإجراءات الاستبدادية (القمعية عادة ) على الأرض ويخلق كل المناخات النفسية الملائمة والتحضيرية مساهما بشكل معنوي هام في الإعداد للفعل الاستبدادي وفي تكريسه.
خذ مثلا الانقلاب المصري على ثورة 25 يناير –لا على الإخوان كما يوهم الإعلام الانقلابي بذلك – فقد قام الإعلام المصري الخاص والعمومي بجهود جبارة من أجل الإعداد للمرحلة الانقلابية عبر التجييش ضد السلطة الحاكمة والدفع نحو فشل الدولة وشل حركة مؤسساتها في المخيال الجمعي للطبقات الشعبية باعتبارها الهدف الأساسي للمنصات الإعلامية العربية. ثم في مرحلة موالية قام نفس الإعلام المرتبط بمراكز النفوذ المالية الإقليمية والدولية بمصاحبة العملية الانقلابية عبر رفع حالة الشحن إلى أقصاها وتصوير الآلاف من الذين خرجوا لدعم الانقلاب على أنهم ملايين يطالبون بالحرية والكرامة في حين يعلم الجميع أنهم مكوّنون أساسا من الجيش والشرطة بملابس مدنية وأن هذه المظاهرات لم تكن غير مسرحية إعلامية بائسة الإخراج. أما بعد الانقلاب فقد حافظت منصات الإعلام الانقلابية على دعم الانقضاض على الشرعية ومصادرة أحلام الشباب الثائر وبيع دمائهم وشهدائهم فوصفت المظاهرات الرافضة للانقلاب بأنها تحركات إرهابية وجرائم ضد الدولة وتهديد لمدنية الوطن إلى غير ذلك من آلاف الأكاذيب التي ثبت زيفها فيما بعد.
تطور الإعلام الرسمي العربي عبر المراحل الثلاث التي ذكرنا أي قبل الانقلاب وخلاله ثم بعده إلى مكون نشط من مكونات الثورة المضادة لكنه أصبح اليوم صانعا فعليا للإرهاب رغم ادعائه محاربته في كل منابر الإعلام الانقلابي.
قد يضيق المجال هنا لسرد حيثيات الدور المشبوه الذي يقوم به الإعلام الرسمي العربي في تجفيف منابع الهوية وفي محاربة كل أشكال الوعي النقدي البناء والخطاب العقلاني القادر فعلا على محاربة مختلف أشكال التطرف والغلو التي يمكن أن يسقط فيها شباب في بحث دائم عن مرجعية سوية قادرة على الإجابة عن كل الأسئلة الحارقة المتعلقة بأزمة الأمة وحالة الانهيار القيمي والأخلاقي والفكري التي تعيشها المنطقة العربية منذ قرون.
في المقابل لا تتوانى نفس المنابر الإعلامية عن نشر كل ما من شأنه أن يزيد في الغربة الفكرية التي يعاني منها الشباب العربي بشكل خاص ويعمق انفصامه المرضي عن الواقع الذي يعيش فيه فيمارس الإعلام كل أشكال العنف الرمزي الذي يبلغ مرحلة الجلد في بعض الحالات فيوسع من الصحراء المعرفية التي تخلق كل المناخات المواتية للتطرف والعنف حيث المنابع الحقيقية لما يسميه الإعلام العربي إرهابا.
حالة الفوضى التي تسم المنطقة اليوم يقع استثمارها بشكل كبير من قبل الإعلام الانقلابي وهو يرى فيها البديل المناسب للأنظمة المتسلطة التي يعتبرها مقارنة بحالة الفوضى خيارا أكثر أمانا مما يسمح لهذا الخطاب بشرعنة الاستبداد وتصويره قدرا للشعوب العربية التي لا يحكمها إلا حاكم مستبد يمنع عنها الفوضى والخراب المصاحب لكل محاولات التغيير.
في تونس مثلا يستثمر ما يسميه التونسيون "إعلام العار الوطني" حالة الفوضى العربية فيقصف يوميا عبر منابر صنعها "بن علي " ورجاله وعيَ التونسيين بكل أشكال التظليل والترهيب وتبييض الإرهاب الحقيقي الذي تمارسه الدولة العميقة عبر أذرعها النقابية والمالية والأمنية. الإرهاب الحقيقي الذي مارسته دولة الاستبداد خلال عقود يقع اليوم تبيضه من خلال إعلام مدفوع الأجر وذلك بإنتاج خطاب إرهابي بديل يدفع نحو إنتاج العنف والعنف المضاد في حين تبقى القضايا المركزية للأمة محاور هامشية لا تعار اهتماما.
اليوم نشهد تفرعا جديدا في الأدوار المنوطة بعهدة الإعلام العربي والمتمثلة أساسا في محاربة كل قوى التغيير في المنطقة وخاصة القوى الإقليمية التي ساندت الثورات العربية ورغبة الإنسان العربي في التحرر والانعتاق وليست الحملة على قناة الجزيرة العربية وعلى دولتي تركيا وقطر إلا جزءا من الأدوار المشبوهة التي يقوم بها الأعلام العربي الذي يستحق فعلا لقب "إعلام العار".
ليس الإرهاب الذي تهدد به الأمة اليوم وتهدد به ثوراتها السلمية إلا نتاجا نوعيا لكل الخطابات التي أصدرها الإعلام العربي والقوى السياسية المرتبطة ولن يكون الخروج من الفوضى التي حوصرت بها المنطقة ممكنا إلا عبر تجديد الخطاب الإعلامي وكنس المناصات المرتبطة بمشاريع الاستعمار ووكلائه في المنطقة.