لا أحد يعرف بصورة محددة أسرار صمت رئيس الوزراء الأردني الدكتور عبد الله النسور عن الكلام المباح وغير المباح في القضايا التي تشغل ذهن الجميع في البلاد والمنطقة، ابتداء من تطورات الاشتباك المفتوح مع الإرهاب وتنظيم الدولة الاسلامية، وانتهاء بالجدل حول الأم المثالية وقضية الانفتاح المفاجئ على إيران، عبورا بطبيعة الحال بملف التحالف.
مرة اخرى من غير المعقول ان يترك شغف الرأي العام في الأردن وحتى على مستوى النخب السياسية كل القضايا والملفات الساخنة والتحديات المصيرية التي تواجه المنطقة والإقليم والدولة الأردنية بحيث يتكثف النقاش العام حول قضايا بسيطة وأحيانا سخيفة، مثل استضافة الممثلة المصرية يسرا او ملاحقة تعليقات على تويتر لنائب في البرلمان، أو حتى قضية الالوان التي ينبغي ان يرتديها عمال الوطن.
لو كنت مكان الدولة لاحتفلت بمثل هذه النقاشات الشعبية التي لا تسمن ولا تغني من جوع، فوجود يسرا ليومين كضيفة على بلدية عمان خطف كل النقاش المتعلق بقانون الانتخاب مثلا، ورئيس بلدية عمان نجح في صرف الجدل المتعلق بالإصلاح السياسي عندما طرح قضية لون زي عمال الوطن.
انشغال الشعب وقبله النخب بمثل هذه القضايا الصغيرة يستحق الاحتفال، فلا حجة للمواطن الصالح الذي يبحث عن الحق والحقيقة عند المسؤول الطالح الذي يحتكر المعلومة ويتصرف نيابة عن الدولة والنظام والشعب دفعة واحدة، بدون حتى ادنى سؤال او استفسار حتى لا نقول بدون ادنى مساءلة او استجواب او رقابة.
طبيعة النقاط والمسائل التي تثير الجدل في الشارع الاردني هذه الايام تشعرني بقدر من الخجل فلا احد يتحدث عن القضايا الأساسية والجوهرية والمواطن يفقد بالضرورة واقعيا حقه في المشاركة حاضرا او مستقبلا، لأن الانشغال بتحديد جدارة الفنانة يسرا كان اكثر بكثير من الانشغال في تحديد الخطوة التالية على هامش المواجهة مع الارهاب.
أقول ذلك وأنا اراقب تفاعلات الإحساس الأردني بالخذلان السعودي والعربي، ففي الاثناء يتم تفكيك الاخوان المسلمين ويتواصل الضرب بدون مبرر حكوميا على محور حركة حماس ويبدو القرار السياسي الاردني مهووسا بتجنب الآثار الجانبية الخطرة الناتجة عن الفراغ
العربي بعد التراجع الكبير لمؤسسة النظام العربي، حيث تتشكل العديد من مساحات الفراغ ولا تملأ اي دولة عربية، مما يدفع بلدا مثل الاردن للبحث ولو قليل من الدفء في احضان ايران.
اربع دول عربية قيادية على حد تعبير سياسي اردني صديق خرجت من قمرة وسكة القيادة فالعراق وسوريا في حالة فشل وانهيار ومصر «مهلهلة» والسعودية تقول بكل اللغات لمحيطها العربي وحتى لحلفائها (لا اريد قيادتكم).
بعد الملك سلمان بن عبد العزيز لا توجد ملامح لمشروع قيادة سعودي للعالم العربي والرياض حسب الصديق الاردني مشغولة اما بخلافاتها الداخلية او بترتيب اوضاع الاجنحة
الخليجية ومصر تحتاج لسنوات طويلة حتى تعالج مشكلاتها قبل ان تنجح دعوات الاردن لتسليمها دفة القيادة، حيث تعمل بعض الأطراف العربية على تركيب اجنحة مزورة للقيادة المصرية أملا في ان تتمكن من التحليق.
كل المؤشرات تقول بأن
السعودية مشغولة بحالها، ولا ترغب بالاشتباك لا مع المحور المصري الاماراتي المتطلع لاعادة انتاج الموقف، ولا مع التوافقات الامريكية الايرانية، واولويات المؤسسة السعودية ابلغت للشركات في الجوار، وتستند على ارضية لها علاقة بالشؤون الداخلية السعودية اولا وبالبيت الخليجي ثانيا.
فهم الحلفاء تماما بأن الملك السعودي الجديد غير مهتم بالقضايا التي يثيرها الآخرون خارج حدود الخليج العربي، وان الرياض اعتذرت عمليا عن متابعة الاهتمام بالقضية الفلسطينية وحتى بتطورات الوضع الداخلي في مصر وتونس اضافة للعراق، فقد تقلصت خلال اسابيع وبصورة سرية او غير علنية مظاهر الاهتمام السعودي بالملفات المجاورة، وتم التركيز على احتياطات امنية فقط تخص الحدود السعودية سواء البحرية او البرية مع اليمن.
نتج عن ذلك وضع معقد قوامه عدم وجود قيادة حقيقية للنظام الرسمي العربي، وانتهى الامر بان اضطرت بلاد مثل الأردن للتمركز بدورها حول متطلبات امنها القومي، مما دفع باتجاه فتح الخيار الايراني على مستوى التقارب، واظهار الرغبة في التفاهم، مما انتج بالتوازي حالة انفتاح خلف الستارة والكواليس بين دول خليجية من بينها قطر والامارات والكويت والبحرين وبين ايران التي تقطف وتخطف ببساطة اليوم ثمار انهيار النظام العربي الرسمي.
لكن هذا التحليق يبدو صعب المنال والفراغات يملؤها الآن الايرانيون والاتراك حيث لا تخفي طهران احتفالها بالسيطرة التامة على الايقاع في اربع دول عربية على الاقل، وتواصل تركيا اردوغان تعزيز نفوذها في ليبيا والسودان وشمال افريقيا ويبلغ رئيس وزرائها نشطاء شباب بان 80 دولة في المنطقة والعالم ستبدأ قريبا بالكلام والتحدث بالحرف العثماني، في الوقت الذي تستعد فيه طهران لاستقبال نخبة من سفراء وقيادات دول الخليج الهامشية، مرة تحت ستار اتقاء شرور اللاعب الايراني المستحكم في المنطقة ومرة تحت غطاء مغازلة مشاريع التحايل على ملفات الحصار الاقتصادي المفروض على الايرانيين.
عمان والقاهرة وغيرهما من عواصم العرب تخطبان الود الايراني وتغازلان النفوذ التركي وبقية العواصم بما فيها تلك الغارقة بالوهم او الدم، تقف على باب الحسرة وتنعى رسميا النظام العربي المصري فيما تخرج عن الرياض تحديدا تلك الرسائل التي توحي باهتمامات اخرى خارج السياق المشار اليه.
نعود للحالة الاردنية، فكل ذلك يجري والقوم هنا لا يناقشون شيئا ولا يتحدثون مع الناس ولا يبشرون بسياسات او برامج واضحة ومحددة رغم الثقة الكبيرة بقدرة الاردن وقدرة قيادته على قراءة الواقع ودراسة تفصيلاته وحيثياته دون ان تظهر النخبة السياسية حرصا موازيا لا على التفكير ولا على التدبير، ودون ان تظهر او تولد تلك البرامج الحوارية النقاشية التي يقترحها صاحب القرار الاول، فالتفاعل الاردني على شبكات التواصل يصر على الاهتمام بالقضايا الصغيرة واي شيء في البلاد يمكن ان يصبح قضية رأي عام بكبسة زر على فيسبوك او تويتر.
الغريب جدا ان النخب المثقفة تشارك في هذه الحفلة ولا تساهم في التنوير والتثقيف، وتنتج يوميا اطنانا من الاحباط والاحتقان والسلبية، خصوصا وانها لا تتحدث على الاقل للجمهور ولا تذكر رأيها ولا تشارك في تقيييمات او تشخيصات، وحتى عندما تتحدث ففي غرف مغلقة وخلال اجتماعات بائسة ينظمها ويحضرها في كل مرة نفس الاشخاص وتدار بنفس الادوات والآليات الكلاسيكية التي ثبت بالمختبر المباشر بأنها غير منتجة ولا يمكن الرهان عليها.
(نقلا عن صحيفة القدس العربي)