ضيّق النظام السوري منذ الأيام الأولى للثورة على النخب المثقفة ليصفها بثورة غوغاء، فاستهدف هذه النخب، ومنها
الأطباء، بالخطف والقتل. ومن بين الحالات، خطف الطبيب المختص بأمراص الصدر صقر حلاق، والطبيب محمد نور مكتبي، في
حلب، ثم تصفيتهما.
وبالنظر إلى أن عدد الأطباء الذين قتلهم النظام السوري خلال أربع سنوات، حسب منظمة أطباء لحقوق الإنسان، 600 طبيب، يمكن فهم الدافع لهجرة غالبية الأطباء في
سوريا. ففي حلب، لم يتبق سوى نحو 400 طبيب من أصل 2500 طبيب قبل أربع سنوات.
وأدت هذه الهجرة لزيادة الواقع الصحي سوءاً، ولا سيما أنّها ترافقت مع تخلي السلطة الرسمية عن واجبها الصحي في المناطق الواقعة خارج سيطرتها، ولم تفلح المراكز الصحية المجانية بتحسين الوضع، فالانفلات الأمني، وتعرض الأطباء للخطف اضطرهم للهجرة مرة ثانية.
استطاع
تنظيم الدولة بداية 2014 جذب بعض الأطباء، وعاشوا فترة ذهبية نتيجة الوضع الأمني الجيد، والمعاملة الخاصة للأطباء، ناهيك عن غياب الطيران الحربي عن سماء مناطق التنظيم، لكنه سرعان ما تشكلت بيئة طاردة لهم عندما منع التنظيم المنظمات الإنسانية من العمل في ريف حلب الشرقي، كمنظمة الرؤية العالمية، متهماً هذه المنظمات بالعمالة والدعوة للمسيحية.
يقول الطبيب "حسن م": "أوقف تنظيم الدولة عمل المنظمات الأجنبية، ولا سيما منظمة الرؤية العالمية التي كانت تقدم خدمات طبية بالمجان، وما يزال معظم كادرها معتقلاً، ومنهم الصيدلاني صادق الفرج، منذ أول أيام عيد الفطر الماضي. وهذه الخطوة ومثيلاتها دفعت كثيراً من الأطباء للهجرة".
وتواصلت مضايقات التنظيم للأطباء، بإلزامهم باتباع "دورات شرعية" على دفعات، والدوام فترات معينة بالمشافي العامة.
يقول الطبيب "أحمد ب": "ألزمنا التنظيم بالدوام لفترات معينة دون أي أجر، بل ونصّبَ أميراً علينا (أبو محمد الشافعي) يعاملنا كأننا عساكر عنده، ويستخدم لهجة التهديد والوعيد إذا تأخرنا".
وبرر التنظيم هذا الإجراء من باب "الحرص" على المواطنين. وفي هذا الصدد، يقول الشرعي في تنظيم الدولة أبو همام الأنصاري: "طلبنا من الأطباء الاختصاصيين الدوام بضع ساعات نتيجة عدم وجود أطباء بالمشافي العامة يقدمون خدماتهم للمسلمين"، حسب تعبيره.
ودفع تدخل التنظيم بتفاصيل الحياة اليومية والشخصية عدداً من الأطباء للهجرة، إذ تدخل التنظيم بزي الرجال والنساء، ومنع النساء (ومنهن الطبيبات) من قيادة السيارة، فأصبح من النادر أن تجد طبيبة تداوم بالفترات المسائية، بل إنّ بعض المشافي لا تتوفر فيها طبيبة نسائية للتوليد إلا في الفترة النهارية، كمشفى بركل والأمل في مدينة منبج بريف حلب الشرقي.
وعززت خطوات التنظيم الأخيرة في بناء دولته "الإسلامية" هجرة الأطباء، فراقب التنظيم العيادات لمنع الاختلاط، وفرض الزكاة بشكل تقديري دون مراعاة الظروف.
يقول الطبيب "محمد ن": أنا طبيب نازح، بيتي بالأجار، وكذلك عيادتي، وأساعد عوائل إخوتي الذكور والإناث النازحين مثلي، وأخبرتهم بذلك. فأجابوني: تلك صدقة على أقربائك، وعليك دفع الزكاة لبيت مال المسلمين".
وفرضت الجزية على الأطباء المسيحيين، كالدكتور "فاسكين آكوب" في منبج، قبل هجرته للإمارات.
ويبرر أبو همام الأنصاري ذلك بالقول: "تسري على الأطباء كغيرهم قوانين الدولة الإسلامية دون تمييز، سواء في الزكاة أو أحكام الاختلاط وغير ذلك".
ودفع منع الطلاب من التوجه للجامعات، وإغلاق المدارس الرسمية، وإنشاء مدارس تحت إشراف التنظيم، دفعت شريحة أخرى للهجرة حرصاً على مستقبل أبنائها.
وانعكست التطورات السياسية والعسكرية الأخيرة سلباً على الأطباء، فشدد التنظيم قبضته الأمنية، وكثرت حالات حظر التجول وحملات الاعتقال في أثناء وعقب معارك عين العرب/ كوباني، فاعتقل التنظيم عدداً من الأطباء الكرد، مثل "آزاد والي" منذ عدة أشهر، وأحمد شيخو، وطبيب الباطنية "كميران"، على خلفية صراع التنظيم مع الكرد، فندر أن تجد طبيباً كردياً، بل إن التنظيم لاحق أيضاً الأطباء المتعاطفين مع الثوار.
وأصبحت مناطق التنظيم تعاني نزفاً وشحاً بالأطباء، ونتيجة لذلك كان يتحول المرضى لتركيا أو حلب المدينة، وقد يموتون في الطريق، مما دفع التنظيم لتهديد الأطباء بمصادرة بيوتهم وأملاكهم. لكنَّ الأطباء لن يعودوا في ظل هذه الظروف، ويبقى المواطن يدفع الفاتورة ألماً ومعاناة نتيجة تدني الرعاية الصحية، وغياب الطبيب ولا سيما الماهر.