مع التسارع المربك والمُدهش الذي عصف باليمن والمنطقة بلا استثناء.. دخلت
اليمن مرحلة جديدة من تاريخ مراحلها المتعددة التي خاضتها خلال الأربع السنوات الماضية، وكلها مراحل عصيبة. كل واحدة أشد عصبًا من الأخرى.
عندما كان الشعب قد أدرك أنه أمام خيارين لا ثالث لهما.. ما بعد ثورة فبراير؛ إما المبادرة الخليجية أو الانزلاق نحو حروب أهلية واحتقان شعبي.. مر بوقت عصيب. ووضع غير متوقع؛ إذ إنه تفاجأ مؤخراً بما حدث ويحدث في الساحة اليمينة في ظل نفوذ
الحوثي.. الذي عرجَّ من كهوف "مرآن" سالكاً طريقا مُلغمة.. أوصلته في نهاية المطاف إلى نقطة نظام، وفاصلة توقف.. وإلى موقف صعب. ووضع معقد.. وأدرك حتماً أنه أمام انقسام وشيك، ولحظة حاسمة، لربما ستقلب عليه الطاولة حينما استغل خذلان الدولة. وظل يمد أذرعه الخبيثة نحو التعمق في العاصمة من خلال شراء ولاءات، وعقد صفقات واتفاقات وصلت أذيالها وخيوطها إلى الرئيس السابق علي عبدالله صالح الذي فتح لهم أبواب العاصمة على مصاريعها.. وجعله ينفذ ما كان يستوجب عليه فعله. وبهذا الشكل استطاع أن ينفذ انتقامه في خصومه ويشفي غليله بطريقة ذكية وهو غير مندرج فيها. إنما كان الفاعل الحقيقي يراقب ما يحدث من خلف الستار.
يرى الحوثي وخلال التطورات المتسارعة وهو يجتاح العاصمة المعقل الرئيس للحكم ويقتحم بعض المحافظات، وهي تتهاوى أمامه الواحدة تلو الأخرى.. أنه قد استحكم بالبلاد وتحكم بزمام الأمور، وتقمص دور الحاكم الفعلي للدولة، وانقض على مفاصل الحكم.. لكنه لا يعلم أن تلك الخطوات التي يرى من منظوره الموحد أنها قد توصله في النهاية إلى السقوط الحتمي بسرعة غير متوقعة توازي انتصاراته المتسارعة. ولربما بدت خيوط ذلك، مع استمرار تصعيده، وحملاته المتغطرسة في التغلب على كل ما يقدره العقل ويرومه الفكر وترمي إليه السلمية عبر قوة السلاح والتشبث والاعتقالات والاقتحامات التي طالت طلابا وصحفيين وناشطين وإعلاميين ومقرات ومكاتب ومؤسسات، آخرها صحيفة أخبار اليوم.. ويريد الحوثي من خلال كل ذلك الإذلال وتكتيم الأفواه لكنه أبطل وأخفق في ذلك وكشف عن وجهه القبيح.
الحقيقة المُرة أن الحوثي مهما تمادى، ومهما استخدم لغة العنف، وأسلوب الغطرسة، ومهما استغل ضعف وتخاذل الجميع.. واستحوذ على كل معاقل الدولة وأركانها، فلن يستطيع إدارة البلاد بالشكل الذي يحقق ما يأمله الشعب.. وليس بمقدوره لملمة الوضع. وترتيب الأوراق بسرعة لافتة كما يخمن.
إذا كان عبدالملك الحوثي الذي لا يستطيع أن يظهر إلا من خلف حجاب قناتهم "المسيرة" أمام جماهيره، ولا بمقدرته المجيء إلى صنعاء، بل الخروج من كهوف "مرآن"، ولا يستطيع إلقاء خطاب سياسي.. كيف لهذا الذي يرى الجميع كل تحركاته، وخطواته المرفوضة أن يحكم بلدا، عصفت عليه أزمة عارمة أوقعته أرضاً ولن تنهض بها من وقعتها.. أو تعافيها من أو مرضها المزمن..؟
كيف له أن يحكم بلدا مستقبله مرهون بوحدة الشعب الذي يرفض مشروعه وتطرفه بهذه العنجهية، والذي تجرع كأس العذاب، وتذوق ويلات الفوضى والاقتتال؟
كان لا يزال يتعلق بثياب الشرعية وإصدار القرارات كونه المستحكم على الرئاسة، بحكم تطبيق القوة على الجميع بمن فيهم القيادة السياسية، عبر الرئيس هادي.. الذي أصابتهم استقالته، وجرعتهم كأس الذل، ومسار التخبط، وعدم استوعاب المشهد.
أوقع الحوثي في ذلك الفخ الذي نصبه بنفسه، ما أدى إلى تسارع في مواكبة الأحداث، وإرباك في المشهد من خلال خلط الأوراق عبر مهلة محددة، إلى مجلس تشاوري وطني. إلى أن طال بهم الوضع السيئ.. وأوقعهم في مغبة الاحتشام في إخراجهم الورقة الأخيرة من ملف السقوط، والانهيار الكلي لشعبية الحركة.. عندما أقدمت على الإعلان الدستوري وحل مجلس النواب. وإرغام بعض القيادات الوزارية على الحضور بالقوة ومنهم اللواء محمود الصبيحي.
تلك خطوة التي خطاها الحوثي.. تعود إلى هرولته نحو المجهول، وتزحلقه نحو جرادة المأزق المظلم، والهروب من الواقع المُخيف الذي أدرجنا فيه، والخوض في مرحلة جديدة. تحمل دلالات عكسية.. تشرذمية، تخرج اليمن عن مسار التفاوض والحوار والحلول السياسية السلمية.. وتدخله في نفق عميق، وتنجر به نحو مستنقع الفوضى العارمة.
لقد انتحر الحوثي كلياً.. وتجرَّع سمَّ السقوط، وذهب نحو عالم جديد، مما فتح ثغرات أخرى، وأحدث فراغا كبيرا بعكس الذي يتحدث عنه.. وأصبح حالياً في صدد البحث عن أعضاء وموالين وقادة ومسؤولين. لكنه في نهاية الأمر سيقع في مرحلة الانهيار الوشيك.. وسينتهي بوقت خافت وسريع كما نهضت وانتشرت بوقت ضئيل !
وعلينا أن ندرك حتماً أن العالم ودول المنقطة وأمريكا على وجه الخصوص.. أرادوا أن تتجرع اليمن كأس العذاب والاحتقان، وتدخل مرحلة الفوضى والعنف والاحتشام.
أردوا أن يلقنوها درساً قاسياً كما فعلوا ويفعلون في البلدان الأخرى.. وإلا لما جعلوا الحوثي ماراً دون توقف، مهرولاً دون تريث.. متخذاً كل تلك الخطوات.. في ظل صمت مُبهم.. لكنهم لن يستمروا مع هذا التعاطي. ودلالاته بعيدة.. ومصالحه ضئيلة ستنتهي مع مرور الوقت.
حينها سيركلون به نحو الرحيل، وسيفتتون نسيج حركته.. كما ركلوا وفتتوا من سبقه.
من لم يتعلم الدرس بعد على بساطته !!؟