كان هدف
أسامة بن لادن وهو بصدد التأسيس لكيان جهادي عابر للقارات هو ترشيد الجماعات الإسلامية المنتشرة عبر العالم إلى ضرورة تبني استراتيجية قتالية، تنتقل بالحركة الجهادية من مواجهة الأنظمة المحلية " العدو القريب "، إلى عولمة الفعل الجهادي و صد "صائل النظام الدولي".
حظيت فكرة أسامة بن لادن بقبول عمر عبد الحكيم المعروف بأبي مصعب السوري أكبر العقول الاستراتيجية الناشطة على الساحة آنذاك، حيث طورها وأصل لها عسكرياً و وشرعياً واستراتيجياً، موظفاً خبرته الطويلة في مواجهة نظامين عربيين وهما النظام السوري في بداية ثمانينيات القرن الماضي، والجزائري في أواسط التسعينيات، وكلا التجربتين انتهتا بالفشل مما عزز فكرة عولمة المواجهة لدى الرجل.
نجح أسامة بن لادن في تنزيل تصوره للمواجهة على أرض الواقع، وانضمت كثير من الجماعات الإسلامية إلى مشروعه الذي عرف في بادئ تأسيسه " بالجبهة الإسلامية العالمية لقتال اليهود والصليبيين"، ثم استقرت التسمية لاحقاً على " تنظيم قاعدة الجهاد".
كانت لحظة انضمام "جماعة التوحيد والجهاد" بقيادة أبي مصعب الزرقاوي إلى تنظيم
القاعدة في 17/10/2004 لحظة مفصلية في عمر هذه الأخيرة، فالزرقاوي كما تظهر رسالته السرية المرسلة لأسامة بن لادن بتاريخ 15/02/2004 اشترط شروطاً على قيادة القاعدة حتى يعلن ولاءه لها، وقدم تصوراً شاملاً عن طبيعة المعركة في العراق والكيانات الموجودة فيه، والقوى المختلفة المتصارعة على النفوذ داخله، وأعطى لما سماهم "الرافضة " و"المرتدين" نصيباً كبيراً من تحليله، منبهاً أسامة ابن لادن إلى خطورتهم و أهمية تصعيد المعركة ضدهم، غير أنه في سياق تصنيفه لأعداء جماعته وضع القوات الأمريكية على رأس القائمة، وختم رسالته المطولة بالقول :" هذه رؤيتنا قد شرحنها، وهذا سبيلنا قد جليناه، فإن وافقتمونا عليه وارتضيتموه لنا منهاجاً وطريقاً، واقتنعتم بفكرة قتال طوائف الردة فنحن لكم جنـد محضرون، نعمل تحت رايتكم وننـزل على أمركم، بل ونبايعكم علانية على الملأ وفي وسائل الإعلام إغاظةً للكفار، وإقراراً لعيون أهل التوحيد، ويومئذ يفرح المؤمنون بنصر الله، وإن بدا لكم غير ذلك، فنحن إخوة ولا يفسد الخلاف للود قضية، نتعاون على الخير ونتعاضد على الجهاد."
بعد مقتل الزرقاوي في 07/06/2006 وظهور ما سمي بقوات الصحوة في المناطق السنية، بدأت بوصلة المواجهة لدى القاعدة في العراق والكيانات المنبثقة عنها (مجلس شورى المجاهدين ثم دولة العراق الإسلامية) في الانحراف تدريجياً، لتأخذ مساراًً معاكساً عن ذلك الذي رسمه أسامة بن لادن، ووافقه الزرقاوي على معظمه، حيث أعيد تعريف وتصنيف أعداء الحركة الجهادية في العراق ليصبح الأمريكيون في أسفل القائمة. بينما رفقاء السلاح وشركاء المدرسة الجهادية يحتلون رأسها.
يرى مراقبون للشأن الجهادي في العراق أن مسار الانحراف بدأ في الأيام الأولى لولاية أبي بكر
البغدادي الذي تسلم قيادة "دولة العراق الإسلامية" خلفاً لأبي عمر البغدادي في 16/05/2010 وظهرت أولى تجليات الانحراف باستهداف المسيحيين وكنيسة سيدة النجاة في بغداد بتاريخ 31/11/2010 وهي العملية التي لاقت ردود فعل غاضبة حتى من قيادات القاعدة، كما تكشف رسالة عزام الأمريكي إلى أسامة بن لادن التي عثر عليها بمنزل هذا الأخير "بأبوت أباد". ثم ما لبثت أن عممت قيادة "دولة العراق الإسلامية" مسمى الصحوات على كل الجماعات والفصائل الجهادية التي تختلف معها، ثم التي تحفظت على مشروع إعلان "الدولة" بتلك الصيغة التي أعنت بها، وأخيراً وسمت بالكفر والردة كل الكيانات والأفراد الذين يرفضون بيعة البغدادي وخلافته المعلنة.
تكشف وثيقة خطيرة (غير مؤرخة) كتبها أحد أعضاء مجلس شورى "دولة العراق الإسلامية"، ويستنتج من بعض تفاصيلها أنها كتبت في بداية ولاية البغدادي الثاني، وتكشف عن حجم التغير أو الانحراف الذي وقعت فيه قيادة "دولة العراق الإسلامية"، يقول كاتب الوثيقة معدداً أخطاء بعض أمراء "الدولة" :" القعود والفِرار من الأمريكان بحجّة أن الإمارة وجهت تعليمات بقتال المرتدين فقط وأن قتال الأمريكان في المرحلة الحالية غير لازم؛ لأن الأصل هو قتال المرتدين وبذلك نجح الصليبيون بتحييد أنفسهم والزج بالمرتدين والمجاهدين بمعركةٍ دامية، وأخذوا يزدادون بالتوسع والتوغل داخل المدن والقرى دون أن يكون هناك من يقف بوجههم، وتولَّد لديهم الشعور بالثقة وخاصة في الأنبار لقلة المواجهات والخسائر التي يتكبدونها "، ويستطرد كاتب الوثيقة في إيراد بعض نماذج التحول وإعادة توجيه بوصلة المواجهة من قتال القوات الأمريكية إلى قتال الطوائف الأخرى فيقول:" ووصل الأمر لحد أن أحد الإخوة كان مرابطاً على عبوة مزروعة لأحد المرتدين، وقدر الله ولم يمر ذلك المرتد وقدراً يمر رتل للأمريكان فوق تلك العبوة فلا تنفجر العبوة على الرتل، فيسأل لِمَ لم تنفجر العبوة على الرتل؟ فيجيب إجابة وددنا أنه سكت عنها: "ليس عندي أمرٌ بضرب الأمريكان.!!! "
مما لا شك فيه أن هذا التحول في استراتيجية وعقيدة الفعل الجهادي في العراق، لم يحظ بأي دعم ومساندة من طرف القيادة العامة للقاعدة في أفغانستان، التي أحيطت علماً بما يحدث في الساحة العراقية عبر مجموعة من الرسائل بعثت بها فصائل وشخصيات جهادية كثيرة أهمها رسالة الجيش الإسلامي في العراق، ورسالة جماعة أنصار الإسلام، ورسالة أبي سليمان العتيبي قاضي قضاة "دولة العراق الإسلامية"، فالقاعدة تعلم أن هناك انحرافاً حاصلاً في فرعها العراقي، لكنها تخاف من اتخاذ قرار حاسم - يضع حداً لهذا الانحراف - قد يكون من عواقبه تأثر مكاسب الحركة الجهادية هناك وإحداث شرخ هائل في بنية التيار الجهادي المتماسك حتى تلك اللحظة، وبالتالي اختارت قيادة القاعدة التعامل مع الوضع في العراق عبر توجيه نصائح عامة تحمل في طياتها رسائل مبطنة لدولة العراق الإسلامية بضرورة العدول عن سياساتها، ولعل خرجات عطية الله الليبي وعزام الأمريكي أبرز الأمثلة على هذه السياسة، غير أن هذا الأخير اقترح على أسامة بن لادن إعلان قطيعة نهائية مع دولة العراق الإسلامية وفصلها عن التنظيم الأم بعد حادثة كنيسة سيدة النجاة ببغداد.
بدأ النموذج الجهادي الذي أسسه أسامة بن لادن بالاضمحلال شيئاً فشيئاً، ليأخذ مكانه نموذج جهادي يقوم على تفسيرات منغلقة وحدية لمفاهيم مثل " الردة" و "الولاء والبراء"، ويضع في صلب أهدافه جميع الكيانات الإسلامية والجهادية التي تختلف معه وإن في أبسط مسائل الفروع وجزئيات الأحكام، ويعيد فرز أعدائه لتصبح أمريكا آخر جزء في ذيل الأفعى وهي التي عدها أسامة بن لادن رأساً للأفعى.
كان على الحركة الجهادية أن تنتظر حتى العاشر من أبريل 2013 تلك اللحظة التي أعاد فيها الفاتح أبو محمد الجولاني الاعتبار لنموذج القاعدة الجهادي، و ليدشن مرحلة إعادة التأسيس لسردية القاعدة كما تصورها أسامة بن لادن وكما أصل لها أبو مصعب السوري.
كان قراراً صعباً ومصيرياً ذلك الذي اتخذه الجولاني بكل حزم وثقة، حيث أعلن عن قطيعة تنظيمية وفكرية مع حالة جهادية رآها شاذة وغالية، ولا يمكن بالتالي السكوت عنها وهي بصدد تقويض مكاسب التيار الجهادي بل ومكاسب الحركة الإسلامية بشكل عام.
رفض الجولاني قرار البغدادي بضم جبهة النصرة إلى تنظيم دولة العراق الإسلامية ، وإعلان كيان موحد باسم " دولة العراق والشام الإسلامية "، كان قرار الرفض كارثياً على جبهة النصرة فقد تسرب عدد من كوادرها وكتائبها معلنين ولاءهم للبغدادي، وفقدت النصرة بنيتها التحتية، وزخمها القتالي، غير أن لحظة المحنة لم تستمر طويلاً فسرعان ما أعاد الجولاني بناء جبهة النصرة في وقت قياسي، ورسخ خطها الجهادي المفاصل و المناقض تماماً لخط "دولة العراق والشام"، وقرر في فبراير 2014 تصعيد الحرب ضد "دولة العراق والشام"، فهدد في تسجيل صوتي إن لم تقبل هذه الأخيرة بمحكمة شرعية في مهلة خمسة أيام فإن :" الأمة ستقاتل الفكر الجاهل المتعدي وتنفيه حتى من العراق"، غير أن الجولاني تراجع عن هذه الخطوة بعد مناشدات من منظرين كبار للتيار الجهادي.
إذن فالتيار الجهادي مدين للجولاني الذي استطاع تحرير القاعدة أو الفكرة الجهادية من قبضة
تنظيم الدولة بقيادة البغدادي، وأعاد إليها رصيدها الشعبي، وحولها من أيديولوجيا نخبوية إلى فكرة شعبية. وإذا كان أسامة بن لادن قد أسس تنظيم القاعدة فالجولاني أعاد تأسيسها وحقنها بعناصر الديمومة والاستمرار، بعدما كادت تتحول إلى سردية جهادية متجاوزة، وهشيماً تذروه رياح داعش العاصفة.