تصاب بالإحباط عندما تشاهد فيلما أجنبيا من انتاج Universal او Disney أو غيرها من الشركات العالمية من عمق الفكرة، وإبداع الإخراج، وحبكة القصة، وفن التصوير، واستخدام التقنيات العالية جدا التي تبهر المشاهد.
لكن ما يصيبك بالدهشة والصدمة هو واقع الإعلام العربي، والسينما بالتحديد. لن أتحدث عن تقدم الغرب التكنولوجي والتقني في الإنتاج، لكن الحديث يكمن في مضمون ما يقدم، والمحتوى الذي يتضمنه، والرسائل التي يحتويها. حقيقة، تتفاجأ بقدرة الشركات الأجنبية على خلق رسالة تُجسد من خلال قصة واقعية لبطل ما، يأخذك في رحلة من المغامرات التي تجعلك من الداخل تؤيد كل ما يفعل، حتى لو كان قتل إخوة لنا مسلمين.
عن فيلم American sniper (القناص الأمريكي) أتحدث الذي رشح إلى ست جوائز أوسكار، وتربع على عرش شباك التذاكر ثلاثة أسابيع متتالية، وحقق أعلى الإيرادات بالنسبة لفيلم حربي فقد بلغت أكثر 300 مليون دولار، حيث تدور أحداثه عن أشهر قناص في الجيش الأمريكي كريس كايل الذي قارب عدد قتلاه الـ250 شخص، والذي تبدأ قصته عندما شاهد أحداث الحادي عشر من سبتمبر وثارت حميته، واشتعل غضبه، وقرر حينها الالتحاق بالجيش الأمريكي للثأر لبلاده، لتنتقل أحداث الفيلم إلى العراق.. وهناك تبدأ القصة.
لحظتها لو تخليت عن معلوماتك التي تعرفها، كمواطن عربي، عن الحرب في العراق، وما جرى من قتل ودمار واعتقالات واغتصاب، وأبشع أنواع الجرائم – وهذا بالتأكيد حال كثير من الشعوب التي تجهل حقيقة ما يجري -، لهتفت باسم هذا الضابط لشجاعته وحبه لوطنه، وأخلاقه الحربية، وإنسانيته التي يجسدها بالفيلم من خلال حرصه على عدم قتل أي مدني، وتعامله اللطيف مع النساء والأطفال، وأن لم يكن له هدف سوى قتل "الإرهابيين".
تظهر لك المعاناة التي يعيشها ذلك الجندي الذي ترك أهله وزوجته وأطفاله، وذهب ليقاتل من أجلهم. يجعلك تشعر بالشفقة وهو يودع أطفاله وزوجته وأحلامه، وتؤيده، وتتمنى أن يعود سالما لهم. يجسد لك الحرص الشديد الذي يعتري ذلك الجندي قبل إطلاقه الرصاصة على الأطفال، يأخذك بعيدا عن واقع الحرب التي جرت في العراق، عن الواقع الذي قتل فيه مئات الآلاف، وشرد ملايين الأبرياء، ناهيك عن ملايين المهجرين والمعذبين.
لم ينس معدو الفيلم رسم الصورة السيئة في ذهنك عن المقاومة العراقية آنذاك. فهي "التي تقوم باستغلال الأطفال والنساء والزج بهم للموت المحتم". يفبركون الأحداث بالطريقة التي تخدم مصالحهم وتبرر عملهم، ويخرجونها بطريقة تجعلك تقف مع الغازي القادم من أقصى الغرب ليقاتل أصحاب الأرض، إضافة إلى أنه يجرد المسلمين من إنسانيتهم ويخرجهم أنهم متعطشين للدماء سواء كانوا صغارا أو وكبارا مما يزيد من حدة العداء للعرب وبالذات الإسلام والمسلمين.
قد لا يكون هذا الفيلم هو الأول من نوعه، فجميع الأفلام التي تقدم لها أهداف ورسائل يسعى القائمون عليها لتحقيقها، لكن وضوح الرسالة في هذا الفيلم بالذات، والصورة المشوهة التي نقلها عن الحرب في العراق، تجعلك تستشعر الخطة الواضحة التي تتبعها السياسة الغربية من أجل إيصال رسائل معينة، بعيدا عن وسائل الإعلام التقليدية هذه المرة، إنما باستخدام الوسائل الترفيهية، والوصول إلى شرائح المجتمعات التي قد لا تتابع وسائلهم الإعلامية، ليصلوا من خلال هذه الأفلام لمئات الملايين من المتابعين، وينشرون الحقائق "المزورة" لحروبهم، من خلال صورة ترسخ في عقل المشاهد، وتجذب مشاعره وتأيده.
هذه الشركات التي تنتج مثل هذه الأفلام تصنع من جنودهم الذين قتلوا أساطير وأبطالا، وهم الذين غزو بلادنا، وقتلوا أطفالنا ونسائنا وشيوخنا، ويجسدوها بقصص بطولية بعيدة تماما عن الواقع، بينما شركاتنا السينمائية غارقة في مستنقع الغراميات والرومانسيات، تنتج أفلاما ومسلسلات تجسد واقعا غريبا، بعيدا كل البعد عن واقعنا العربي، يعود بالإنحطاط بشبابنا وجيلنا الصاعد. وهذا إن دل على شيء، فإنما يدل على تبعية تلك المؤسسات، وأن هناك من يقف وراءها.
مجتماعتنا العربية مليئة بالقصص والأبطال الذين ضحوا بكل ما يملكون من أجل الدفاع عن أوطانهم وأمتهم، ودفعوا الغالي والنفيس في سبيل تحرير أرضهم، بدءا من فلسطين ومرورا بالعراق وافغانستان، وغيرها من بلاد العرب والمسلمين، دافعوا عن بلادهم ضد الغزاة.
ناهيك عن دول الربيع العربي التي تستنبط منها أروع الأمثلة والقصص لشباب ونساء ضحوا بأرواحهم، وعذبوا وسجنوا، ولا زالوا، في سبيل الحرية والكرامة. ولا شك بأنها قصص خصبة تصلح لتتجسد في أفلام ومسلسلات تخلد للأجيال القادمة، في انتظار من يعطيها حقها من الاهتمام.
القضية لا تكمن في الإمكانيات، ولا إنشاء شركات إنتاج جديدة. فالشركات متوفرة، وإنتاجها غزير لا يتوقف. كما أنها لا تفتقر للأموال ولا العقول. الشيء الوحيد الذي نفتقر إليه هو حكومات وأشخاص ذوو عقول نظيفة، تحمل رسالة، وتؤمن بقضايا أوطانها، لتنقل وتجسد ما يحدث لشعوبها وأمتها.