هناك أشخاص لم تستطع الأيام هزيمتهم، ولم تثنِ قيود
السجن من عزائمهم، لا يشيخون ولا يفترون. تزيدهم القيود صلابة، ويعطيهم البعد عن الأهل طاقة إيجابية، فيغدقون الحنان والأخوة على من هم حولهم، هم الرجال الرجال فيا لروعتهم!
ربطتني بصاحب مقالي هذا علاقةٌ خاصة، تمازجت أرواحنا داخل سجون الاحتلال ومن خلاله توطدت العلاقه مع جميع أفراد العائلة الذين لم يبقَ أحدٌ منهم خارج السجون، إذ توزعوا على السجون والمعتقلات والأبعاد والقبور.. وبقوا رغم كل هذا التنكيل كالطود الشامخ في وجه الرياح العاتية تزيدهم البلاءات قوة، وتعطيهم السجون عزيمة، ويحولون المحن إلى منح.
بكر سعيد أبو السعيد.. لا أظن أن أحدا دخل السجون في يوم من الأيام ولا يعرفه!! اعتقل مرات ومرات منذ عام 1992، وهو في سجون الاحتلال يخرج فترة ومن ثم يعود سنوات يواجه الصعاب بروح جميلة لم تهزه الأيام رغم كل المحن.
طورد سنوات من قبل الاحتلال وأصيب في اجتياح نابلس الشهير 2002 برصاصة بالوجه نجاه الله من موت محقق، لتستمر المطاردة ويعتقل في عملية خطيرة، كتبت عنه الصحف العبرية أنه المسؤول عن عمليات كبيرة. خضع لتحقيق قاسٍ وعسكري، صمد ونجا من حكم المؤبد ليمضي بضع سنوات ثم يخرج.. وتبدأ معاناته الجديدة مع الاعتقال الإداري!
لا يذكر بكر كما قال لي أنه أمضى عاما لم يدخل السجن فيه، فهو مستهدف ما دام خارج السجن والقرار الإداري جاهز من لحظة الاعتقال.
لم يعد يعتقل أبو السعيد وحده كما كان سابقا؛ بل إنه يعتقل هو ونجله سعيد، ويتحولان بمجرد دخولهما السجن إلى أصدقاء.. سعيد ينادي والده بـ"أبو السعيد"، يتسامران لما بعد منتصف الليل، فبرش الأب بجوار برش الابن الذي أكسبته السجون صلابة وقوة، فروح أعمامه الرجال عثمان المعتقل منذ 2005، ومعاذ المعتقل منذ 2002، تسربت في قلب الشاب سعيد.
عبر لي بكر أكثر من مرة عن فرحه وسعادته بنجله سعيد وقال لي: "لا أحزن حين يعتقل ابني فهو ليس بأفضل من أبناء شعبنا، أنا فخور بأن ابني في السجن بجواري أكثر من ذلك المسؤول الذي أخرج ابنه لدراسة الفنون بالخارج على حساب الدولة"!!
في بلادي رجال كثر من نوعية بكر يعتقل مع نجله، لا يهمه تقدم العمر فالصديق بكر تجاوز عقده الخامس رغم أنه يحمل في صدرة روح الشباب وهو بكل أمانة محبوب من الشباب صغار السن الذين وجدوا فيه روح الشباب وحماستهم.
قال لي بكر إن "أكثر ما يؤلم قلبي كلمات ابنتي الصحفية صفاء التي تخطها على صفحتها على موقع التواصل الاجتماعي، فأشعر كم هي بحاجة لوجودي بجوارها. أتفهم هذه الحاجة ولكن الوطن يحتاج منا إلى الكثير من التضحيات".
وقال لي: "لحظة وفاة والدي الشيخ سعيد بلال بكيت بحرقة. أطبقت علي جدران الزنزانة. اختبأت من نفسي بإغماض عيوني. والدي مات وأنا وأشقائي الأربعة بالأسر، أي بلاء هذا وأي ابتلاء!! لم أجد غير معية الله تحتضنني توجهت له فنزلت على روحي السكينة. تماسكت ومر بي شريط الذكريات سريعا وتمنيت على الله أن يجمعنا في جنانه".
أبو السعيد صاحب الروحة البسامة والنفس المتوقدة القابع بالاعتقال الإداري منذ منتصف 2014، يصارع بروحه التواقة للحرية ولأسرته وللاستقرار، قيودَ السجن والاستهداف والاستنزاف تحت نير الاعتقال الإداري وهو على يقين أنه سينتصر يوما على السجن والسجان.
لروحك المختطفة ظلما في سجون الاحتلال ولقلبك الذي ينبض أخوة وطيبة وحنانا، لك يا بكر ولجيل سيأتي يتعلم من سير الرجال.. أكتب كلماتي هذه عنك للجيل القادم، فلك الحب والتقدير والتحية يا ابن الكرام.