بعد تواتر تصريحات لعدة مسؤولين أتراك عن إمكانية حصول تقارب وترميم للعلاقة مع
مصر إذا ما حسنت من سجل الحريات وحقوق الإنسان بعيد المصالحة
القطرية - المصرية برعاية (أو ضغوط) سعودية، وبعد صمت تركي أو خفوت في حدة التصريحات الموجهة للقاهرة، حملت الأيام القليلة الماضية - منذ ذكرى ثورة يناير - تصعيداً جديداً في لغة الخطاب التركي تعطي إشارات معاكسة لما سبق.
فقد تزامنت تصريحات نائب رئيس الوزراء أرينتش ووزير الخارجية جاويش أوغلو مع المصالحة القطرية السعودية، وتطرقت التصريحات إلى الخسائر التي تعرضت لها
تركيا جراء موقفها المبدئي من الانقلاب في مصر، وركزت على حاجة تركيا ودول الخليج لبعضهما البعض. فهم في حينها أن تركيا في طريقها لإعادة الدفء لعلاقاتها مع القاهرة على قاعدة التعامل مع الأمر الواقع، بعلاقات الحد الأدنى سياسياً والممكن اقتصادياً.
ورغم أن الذكرى الرابعة للثورة مرت في تركيا دون فعاليات إحيائها من الأتراك أو المصريين بما يتناسب مع "التهدئة" التركية، إلا أن سقوط عدد من الشهداء كسر الصمت التركي الرسمي على شكل بيان أدان "قتل" المتظاهرين السلميين دون أن يتطرق إلى بعض العمليات الثورية التي أثارت ردود فعل دول أخرى، فكان هذا البيان دليلاً على تغير ما. لاحقاً، انتقد الرئيس التركي إصدار حكم جماعي بالإعدام لـ 183 شخصاً "لاعتراضهم على الانقلاب"، بينما كان رد الخارجية التركية على نظيرتها المصرية حاداً جداً، متضمناً عبارات مثل "مثلث السلاح والاستبداد والظلم"، معتبراً رد الخارجية تعبيراً عن "عمق العجز والعقد" التي وقعت بها، وواعداً باستمرار تركيا بقول آرائها "بعالي الصوت".
لا شك أن لغة هذا الخطاب ومفرداته مختلفة جداً عن سياق المصالحة والتطبيع مع القاهرة. فإذا ما أضفنا مشاركة قسم الشباب في حزب العدالة والتنمية الحاكم في تركيا في فعالية للتنديد بقرار أحكام الإعدام المذكور، سيكون ثمة وجاهة كبيرة في سؤال: ما الذي تغير؟!.
ابتداءً، يبدو الموقف التركي منسجماً مع حساسية أنقرة من الانقلابات العسكرية وما يرافقها من انتهاكات لحقوق الإنسان خاصة السجن وأحكام الإعدام، كما أنه يبدو متناغماً مع التصريحات الأخيرة التي اشترطت تحسين سجل حقوق الإنسان قبل أي تقارب بين البلدين.
بيد أنه لا يمكن إغفال أهمية التغير الحاصل في هرم السلطة في المملكة العربية السعودية والظلال التي ألقتها على المشهد الإقليمي، أولاً على مستوى العلاقات المصرية القطرية التي يبدو أنها انتكست بعد وفاة الملك عبدالله وبدا ذلك ظاهراً في سياسة الجزيرة التحريرية وفي تأخر أي خطوات تقاربية أو زيارات، ثم الآن - ربما - فيما يتعلق بالعلاقات التركية المصرية.
الإشارات المتواترة القادمة من الرياض قد تفسر التغير الطارئ على سقف الخطاب التركي، فحتى لو لم تكن التغييرات الكثيرة في السعودية جزءاً من مراجعة شاملة لسياسات المملكة الخارجية، فإنها ولا شك تخفف من الضغوط التي كانت تمارس على تركيا في موضوع العلاقة مع مصر تحديداً، الذي كلف أنقرة الكثير من الخسائر، في مقدمتها عضوية مجلس الأمن. في هذا الإطار، ربما تساهم التسريبات الأخيرة للسيسي والمتعلقة بدول الخليج في تخفيف الضغط عن أنقرة بشكل كبير.
ما فات الكثيرين في فهم الإشارات التي أرسلتها أنقرة بخصوص "إمكانية" التقارب هو أن الأخيرة لن تسعى إليه صاغرة ولا لاهئة، بل لن يتم-– إن تم-– إلا وفق شروطها وما يليق بموقعها ودورها، وبالتالي لم يكن التقارب المحتمل ليكبل يدي تركيا أو يكمم فمها بين يدي أحكام الإعدام الجماعية، كما أنه يمكن من ناحية أخرى فهم التصريحات على أنها "العصا" التي تكمل دور "جزرة" التصريحات الإيجابية.
باختصار، لا التصريحات السابقة عنت أن تركيا ستسعى إلى مصالحة بأي شروط مع النظام القائم في مصر، ولا الانتقادات الحالية تغلق الباب تماماً أمام أي تطبيع محتمل، ذلك أن تركيا قد خفضت سقف الخلاف فعلياً مع القاهرة من مستوى الشرعية المبدئية (كانقلاب) إلى مستوى الأداء التنفيذي (الحريات وحقوق الإنسان). وبذلك فلم يعد سؤال "هل" هو المطروح إزاء التقارب التركي المصري المحتمل، بل أسئلة "متى" و"كيف" و"على أي مستوى وبأي شروط".