رغم ما يتهددها من مخاطر لا تحصى، لا تزال العشرات من
الأبراج التاريخية في محافظة
صفاقس التونسية منتشرة بشموخ هنا وهناك تروي تاريخ أجيال وأجيال استقروا فيها أو مروا بها، منذ أواخر القرن السابع عشر الميلادي.
فآنذاك كانت الأبراج من مقومات المعمار الأصيل التي طبعت حياة أهالي صفاقس، على بعد 270 كم إلى الجنوب الشرقي من العاصمة تونس، ولم يتبق اليوم من بضعة آلاف من الأبراج إلا عدد قليل يتراوح بين 40 و50 برجا، بحسب ما أفاد به المهندس المعماري، مراد الفندري.
في تلك الفترة كانت الأبراج حكرا على أصحاب المناصب السامية، مثل الولاة والعائلات الثرية الذين يقضون فصل الخريف والشتاء داخل أسوار المدينة العتيقة، فيما يخصصون فصلي الربيع والصيف داخل أبراجهم المنتصبة وسط البساتين الخضراء والأراضي الشاسعة، بعيدا عن ضجيج أزقة المدينة العتيقة الضيقة، قبل أن يصبح نمط العيش هذا شأنا مشتركا بين أغلب سكان المحافظة الباحثين عن هدوء الطبيعة وجمالها وشموخ الأبراج وأمنها.
ويؤكد المؤرخ محمود مقديش، الملقب بـ"أبي الثناء الصفاقسي" (1742م- 1813م)، ما كان يتردد على لسان الأجداد آنذاك في وصفهم للعيش المريح والآمن داخل الأبراج قائلين: "راحتي وأمني في البرج الزمني".
وقد اصطلح على تسمية البرج بـ"القصر"، كما جاء في كتاب المؤرخ مقديش "نزهة الأنظار في عجائب التواريخ والأخبار".
ومن أهم الأبراج الموجودة حاليا في صفاقس نجد برج كمون والعيادي وكسكاس وكريشان والتركي وعلولو والشعبوني والسلامي والشافعي والرقيق والقلال.
ويتميز البرج بخصائص معمارية فريدة ومتناسقة تبرز توسط ذلك الشكل الهندسي المربع للبستان الفسيح، وإذا اقتربنا منه أكثر تلمسنا جدرانه السميكة التي يصل عرضها إلى متر واحد وارتفاعها إلى 10 أمتار، تبنى بالحجارة المثبتة بخليط من "الجير العربي"، الذي يعطي الجدار صلابة ومتانة، بحسب المهندس المعماري الفندري.
ويتوسط الواجهة الأمامية للبرج باب رئيسي كبير الحجم من الخشب المتين القديم ويثبت من الداخل بعارضتين من الخشب أو الحديد في الجدار على يمين الباب وشماله ليمنع ولوج الأعداء أو المتربصين بمحتويات الأبراج.
وعادة ما تعلو الأبواب الرئيسية فتحات ضيقة يطلق منها سكان الأبراج النار على المعتدين.
وفي أبراج أخرى، نجد على مستوى مرتفع من المدخل بناء بارزا على شكل أنف يسمى "الخشم"، ويستعمله أصحاب الأبراج لصب الماء الساخن أو دفع الحجارة الثقيلة على الأعداء.
وتحتوي واجهات الأبراج على نوافذ صغيرة ترتفع عن مستوى سطح الأرض وتلامس الأسقف تعطي إحساسا بالأمن والطمأنينة.
وتجاري البرج أسطحة (سطحة) عريضة ذات انحدار نحو الصهريج، حيث تصب مياه الأمطار التي تتجمع فوقها وتستعمل فيما بعد للشؤون المنزلية والسقي.
وعند الولوج داخل البرج نقابل الوسطية (وسط البرج)، وهو فناء صغير تجانبه عن اليمين أو الشمال غرفة تسمى "جلسة"، ومدرج ضيق يأخذ إلى الطابق الأول "العلي"، الذي يحتوي على غرفة أو غرفتين فأكثر، وعادة ما يشيد السقف في شكل قبو من الحجارة المرصفة والمثبتة بخليط من الجبس، وقد تطور في مرحلة لاحقة ليشيد من الخشب.
وآنذاك، أضفى بعض الأثرياء على الأبراج مسحة فنية تمثلت في زركشة الفناء بقطع من الجليز (طبقة رقيقة جدا من مادة زجاجية) والرخام التي تحيل رسومها إلى أشكال الفن المعماري المورسكي.
والمورسكيون هم حوالي نصف مليون مسلم ظلوا يعيشون في إسبانيا بعد سقوط آخر الممالك الإسلامية، وهي غرناطة عام 1492، ثم تم طردهم من إسبانيا عام 1614 إلى دول شمال أفريقيا.
ومع التطور الديموغرافي خلال بداية القرن الـ19 الميلادي، اتسع البرج وأضيف إليه "حوش" (مساحة شاسعة تتوسط فناء البرج) وإسطبل (مخصص للجياد والماشية) وبيت لخزن المؤونة ومطبخ وحمام. وفي مرحلة ثانية أضيف إليه غرفة أو غرفتان متقابلتان بالحوش وبيت للسهرة.
وقد أخد البرج في مراحل متقدمة عدة عناصر من المنزل الحضري (الدار)، بينها السقوف المدهونة والواجهات الخشبية.
ومع التطور المعماري الكبير الذي تشهده محافظة المليون نسمة (صفاقس)، بدأ بريق الأبراج الذي كان بالأمس يشع دلالة على الترف والملك ينطفئ، معلنا خطر تلاشي هذه البناءات الشامخة بتاريخها العظيم، إذا لم يتم التدخل العاجل لإنقاذها، اقتداء بتظاهرة جرى تنظيمها قبل أشهر تحت عنوان "البرج العربي الصفاقسي"، واحتضنت حلقات نقاشية لإنقاذ الأبراج.
وركزت تلك الحلقات النقاشية على التوعية بقيمة هذه الكنوز وأخطار اندثارها، لا سيما وأن أعدادها في تراجع كبير؛ بسبب الزحف العمراني الهائل، وتعمد البعض الإطاحة بهذه الدُرر، لتقوم مكانها منازل عصرية أو أبراج سكنية، وهو ما لا يخدم توجّه المحافظة التي تعيش على وقع اختيارها من قبل المنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم (ألسكو) عاصمة للثقافة العربية لسنة 2016، وذلك إذا لم يتم التوظيف الجيد لمعالم صفاقس التاريخية.