تلحُّ السلفية المعاصرة على اتباع منهج
السلف الصالح، باعتباره الطريق المستقيم لفهم الدين والقيام به، فالسلف الصالح هم الجيل الذين شهدت لهم نصوص الشريعة بالأفضلية، ولأنهم لا يجمعون على ضلالة فإن الانتساب إليهم يعني الانتساب إلى العصمة، بحسب أحد كبار شيوخها المعاصرين.
في تعريفه للسلف الصالح، يقول الشيخ المحدث محمد ناصر الدين الألباني، الذي يعدّه السلفيون مع الشيخين السعوديين، عبد العزيز ابن باز، ومحمد بن صالح العثيمين، أئمة السلفية المعاصرة المقدمين، "إن (السلف) إذا أطلق عند علماء المسلمين فهم أهل القرون الثلاثة الذين شهد لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم بالخيرية في قوله: "خير القرون قرني، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم..".
بعد تعريفه للسلف الصالح، وتأكيده على انتماء السلفية والسلفيين إلى أولئك السلف، يقطع الشيخ الألباني بأن "هذه النسبة ليست نسبة إلى شخص أو أشخاص كما هي نسبة جماعات أخرى موجودة اليوم على الأرض الإسلامية"، "بل هي نسبة إلى العصمة، ذلك لأن السلف الصالح يستحيل أن يجمعوا على ضلالة.." على حد قول الألباني.
يستند الشيخ الألباني في تأسيسه لحجية منهج السلف الصالح وفهمهم، إلى حديث الافتراق المشهور، الذي جاء فيه النص على ضلال سائر فرق الأمة الثلاث والسبعين، وانحصار الفرقة الناجية في "الجماعة" التي هي جماعة الرسول عليه السلام والصحابة، ومن سلك سبيلهم ومن نحا نحوهم، وهم السلف الصالح الذين حذر الله المؤمنين من مخالفتهم، وسلوك غير سبيلهم.
فالتحذير الوارد في الآية الكريمة – وفقا للشيخ الألباني - {وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا} ينطبق على كل من خالف منهج السلف الصالح، مؤكدا ذلك بقوله: "أي من سلك غير سبيل الصحابة الذين هم العصمة في تعبيرنا السابق، وهم الجماعة التي شهد لها الرسول عليه السلام بأنها الفرقة الناجية، ومن سلك سبيلهم".
ويرى الشيخ الألباني أن للصحابة مزية على من جاء بعدهم، بسماعهم المباشر من الرسول عليه السلام، ومعايشتهم للتنزيل والتطبيق العملي للإسلام، وهو ما منحهم الأفضلية في فهم النصوص، وتقدمهم فيها على من جاء بعدهم.
منهج السلف ليس مصدرا وإنما طريقة فهم
يبدو الشيخ الألباني صارما في إثبات حجية منهج السلف الصالح وإلزامه لمن بعدهم من المسلمين، وهو يصرح بشكل مباشر أن مخالفة منهج السلف في طريقة فهمهم للنصوص، تعدّ لونا من مشاقّة الرسول، واتباع غير سبيل المؤمنين، الذين هم في الأساس جيل الصحابة ومن جاء بعدهم من التابعين وتابعيهم بإحسان.
لكن بماذا حاز السلف الصالح تلك الخيرية المذكورة في الحديث؟ وهل يلزم من تلك الخيرية حجية فهمهم وإلزاميته لمن بعدهم؟ يرى الداعية والباحث الشرعي رمضان الجلاد أن السلف لم يحوزوا تلك الخيرية بسبب ظرف زماني محدد، وإنما لطريقتهم التي انتهجوها في فهم الدين، واستنباطهم لأحكامه.
ورأى الجلاد أن إمكانية استنساخ تجربة السلف الصالح قائمة إذا ما توافرت للأجيال اللاحقة روح الفهم والاتباع المبصر التي كانت راسخة في أجيال السلف، باستمدادهم من الكتاب والسنة على النسق الذي فهمه السلف في تلك الحقبة الزمنية، فهو نوع من الاستنساخ الذي يمكن تحقيقه.
وردا على سؤال "عربي21" حول ما يقال عن موقع حجية السلف الصالح بين
مصادر التشريع المعروفة، قال الجلاد: إن هذا السؤال بما فيه من اعتراض يتضمن خلطا كبيرا، فمنهج السلف ليس مصدرا، وإنما طريقة لفهم المصدر، ولم يقل أحد أصلا إن منهج السلف مصدر من مصادر التشريع، وإنما هو طريقهم في فهم المصادر وتطبيقها.
وحول أدلة حجية فهم السلف، أوضح الجلاد أنها نقلية وعقلية، ذاكرا بعض الأدلة النقلية قريبا مما جاء في كلام الشيخ الألباني، أما العقلي منها فيتمثل في أن الذين سمعوا النصوص مباشرة ولأول مرة هم أقدر على فهمها وتحديد مراد المتكلم منها، وهو ما يضعف ويحيد عن أصله كلما تباعدت العصور عن الزمن الأول.
منهج السلف الصالح فضفاض ولا مفهوم له
من جهته أوضح الداعية الإسلامي، أحد تلاميذ الشيخ الألباني الأوائل، عبد الفتاح عمر، أنه مع احترامه لشيخه الألباني وتقديره له، إلا إنه لم يقف على مفهوم واضح ومحدد لما يطلق عليه منهج السلف الصالح، ولما يوصف بفهم السلف، متسائلا: ماذا يريدون بهذا هذا المنهج؟ وهل للسلف فهم واحد أم أنهم اختلفوا في فروع العقائد وشؤون السياسة والأحكام الفقهية؟
ويتابع عمر حديثه لـ"عربي 21" قائلا: إن كانوا يريدون بفهم السلف إجماع الصحابة، فهذا له مفهوم واضح ومنضبط، ويجري عليه ما يقول الأصوليون في حجية إجماع الصحابة، أما إطلاق منهج السلف هكذا، فهذا كلام فضفاض لا يمكن تحديد مفهوم له.
ولم يوافق عبد الفتاح عمر شيخه الألباني على اعتبار أن مخالفي منهج السلف الصالح ينطبق عليهم مشاقّة الرسول، واتباعهم غير سبيل المؤمنين، لأن الآية تتحدث عن مشاقّة الرسول في الإيمان من أصله، واتباع غير سبيل المؤمنين في سلوكهم طريق الإيمان، فلا علاقة لها بما ذهب إليه الشيخ الألباني في استشهاده بها.
في السياق ذاته، اعتبر الباحث المتخصص في الحديث النبوي وعلومه، مؤلف كتاب "السلف والسلفيون" إبراهيم العسعس أن الحجية في فهم السلف لا تتحقق إلا بإجماع عصر التنزيل (أي الصحابة)، فإجماعهم إن وقع هو ما تقوم به الحجة، ولا حجة ملزمة في أقوال من بعدهم من التابعين وتابعيهم.
وحذر العسعس من دعاوى يكثر تردادها في سياق إلزام الآخرين باسم منهج السلف وفهمهم، من تبني أقوال معينه ونسبتها إلى فهم السلف بِعَدِّها ملزمة، كالدعوى التي تقول إن منهج السلف في الصفات هو الإثبات، لأنه لم يعرف عنهم التأويل، مع ثبوته عنهم في أدلة صحيحة، فلا يصح معها القول أن منهج السلف هو الإثبات مثلا.
وفي تحديده لمنهج السلف على اعتبار أن الحجة فيه إنما تثبت بإجماع الصحابة فقط، أوضح العسعس لـ"عربي 21" أن من أبرز معالم ذلك المنهج الخضوع لمرجعية الشريعة، وفهم نصوصها بحسب دلالاتها اللغوية، وخاصة فهم دلالة ألفاظها في عصر التنزيل، واعتبار سياقاتها التي وردت فيها.
ولفت العسعس إلى إمكانية وقوع الاختلاف – ضمن إطار ذلك المنهج – في الأفهام والأحكام بين الباحثين في حقول العلوم الشرعية الملتزمين بمنهج فهم مقتضيات النصوص الشرعية ودلالاتها، كما وقع لابن حزم مثلا في إباحته للموسيقى، ولا يصح تسمية ذلك خروجا عن منهج السلف، وإنما يقال أداه اجتهاده الشرعي إلى هذا الفهم، ويمكن للعلماء الآخرين موافقته أو مخالفته فيه.
لا حجبة في فهم السلف على من بعدهم
هل دلالة النصوص التي ساقها القائلون بحجية منهج السلف الصالح وفهمهم قاطعة في دلالتها على ما أرادوه؟ بحسب الدكتور أسامة نمر أستاذ الحديث وعلومه في جامعة الزرقاء الأردنية، فإن تلك النصوص لا تتضمن أي دلالة على حجية فهم السلف الصالح، وما يقال عن حجية إجماع الصحابة يرجع في حقيقته إلى حجية الإجماع في ذاته، ولا فرق بين الصحابة وغيرهم في ذلك.
وأوضح الدكتور نمر أن فهم آحاد الصحابة ليس حجة شرعية، وهو المنصوص عليه عند أئمة الشافعية من علماء الأصول، ما يعني عدم إلزاميته وجواز مخالفته، ممثلا لذلك بما نقل عن ابن عباس والمروي كذلك عن ابن مسعود في تفسيرهم لقوله تعالى: (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ..} بالغناء، مبينا أنه يجوز لنا موافقتهم فيه ومخالفتنا له.
وفي مناقشته لما يقال عن أن الحجية إنما تقوم بمنهجية فهم السلف الصالح المتمثلة في طريقتهم في تفسير النصوص، اعترض الدكتور نمر على هذا التوصيف بقوله: "نحن لا نعرف تلك المنهجية، وهي مخفية بالنسبة لنا، لأن الصحابة لم يكشفوها لنا، ونحن نتعامل مع آرائهم التي قالوها، وابن عباس حينما فسر لنا "لهو الحديث" بالغناء لم يكشف لنا عن منهجيته في فهم الآية مثلا".
وردا على سؤال "عربي21" هل وجود الصحابة في عصر التنزيل يمنحهم مزية في الفهم على من جاء بعدهم؟ أوضح الدكتور نمر أنه مع التسليم بأن معايشة الصحابة للتنزيل، وصحبتهم للرسول، تمنحهم فهما دقيقا للنصوص، إلا إنه لا يمكن القبول بذلك على إطلاقه، كما يدل عليه الحديث النبوي القائل: "نضر الله امرأ سمع منا شيئا فبلغه كما سمع، فرب مبلغ أوعى من سامع".
وخلص الدكتور نمر إلى طرح السؤال الجدلي الإشكالي القائل: هل فهم الصحابة ما لم يكن إجماعا ملزما لمن بعدهم؟ مجيبا عنه بأنه لا يجد في القرآن الكريم والسنة النبوية ما يثبت ذلك ويدل عليه، وكل الأدلة التي استدل بها القائلون بحجية فهم السلف لا تنهض للدلالة على ذلك.
ستبقى دائرة الخلاف قائمة، وستبقى ساحة الجدل مفتوحة، بين من يرون حجية فهم السلف الصالح وإلزاميتها لمن بعدهم، وبين من يرون أن الحجة في فهم السلف لا تكون إلا بما تحقق فيه إجماع الصحابة أصوليا، ولا يكون بتبني أقوال اجتهادية (خلافية) قيلت في عصور متقدمة، ليتم رفعها إلى مصاف قطعيات الدين وثوابته، وليصار إلى إلزام المخالفين لها، بإشهار سيف حجية فهم السلف الصالح في وجوههم، الملزمة لهم ولسائر أجيال المسلمين اللاحقة.