عندما يُتابِع المرء ردود فعل بعض قيادات فتح واللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير
الفلسطيني، أو حتى ردود فعل محمود
عباس إزاء استشهاد زياد أبو عين ويقارنها بما هو الحال الآن بعد أقل من أسبوع، يتساءل هل اعتبروا زياد أبو عين واحداً منهم، أو لم يعد بعد استشهاده واحداً منهم. فالرجل باستشهاده كاد يوّرطهم بأخذ موقف جاد وعملي إزاء هذه الجريمة، الأمر الذي لا يتناسب مع الخط السياسي الذي يتبعونه، ولم يدخل في حسبانهم استشهاد أحد القادة في ذلك الخط، كما فعل زياد أبو العين. فكل ما قالوه عن أن دمه لن يذهب هدراً حرصوا أن يذهب هدراً.
لقد انتهى ردّ الفعل إلى تقديم مشروع القرار العتيد إياه إلى
مجلس الأمن. وبهذا يكون ردّ الفعل قد هبط من التهديد بوقف التعاون الأمني مع العدو، إلى تقديم مشروع قرار انتظر طويلاً على أبواب مجلس الأمن، فأُخضِع للحوار والتعديلات، ليعود مرة أخرى إلى قائمة الانتظار، فكان لا بدّ من التعويض فأُعلِن عن إقامة نصب تذكاري لزياد أبو عين.
رحمة الله عليك يا زياد أبو عين فقد عاملك الذين دافعت عن خطهم السياسي بردّ فعلٍ هزيلٍ، لا يُساوي نَفَساً واحداً من أنفاسك الأخيرة. فكان هذا جزاؤك لأنك لم تفهمه جيداً بكل أبعاده. فقد ظننت بأن المعركة مع الكيان الصهيوني على الأرض أيضاً، وإذا بها معركة في المجال الدولي فقظ، وتقتصر على إقناع مجلس الأمن على تبني المشروع الذي يقضي بإقامة دولة فلسطينية وانسحاب قوات الاحتلال من الضفة الغربية خلال ثلاث سنوات (قابلة للتمديد طبعاً). أما ما يسمّى المقاومة الشعبية، فيجب ألاّ تصل إلى ما وصَلتَ إليه أنت.
لا شك في أنك قد سمعت من أبيك أو جدك هزءاً كثيراً بقرارات هيئة الأمم المتحدة منذ القرار 181 عام 1947 إلى ما تلاه من قرارات، باعتبارها "حبراً على الورق" بالنسبة للقضية الفلسطينية، وقد أدت دور استدراج الموقف الفلسطيني للاعتراف بالكيان الصهيوني من خلال الاعتراف بها. فقرارات هيئة الأمم ملغومة بالنسبة إلى الشعب الفلسطيني وحقوقه الأساسية وثوابته.
وهذا هو الحال، كذلك، بالنسبة إلى قرارات البرلمانات الأوروبية التي اعتبرها البعض انتصارات فلسطينية مدويّة، بالرغم من أنها تتضمن مبدأ حلّ الدولتين والاعتراف بالكيان الصهيوني مقابل اعتراف البرلمانات الأوروبية بالدولة الفلسطينية.
بالطبع ثار غضب حكومة الكيان الصهيوني وأنصاره من هذا القرار الذي يُطالب بدولة فلسطينية، ولو تضمن شروطاً
إسرائيلية أو أعطى الكيان أكثر مما يُعطي الفلسطينيين. وبالمناسبة لم تعترف حكومات الكيان الصهيوني بأيِّ قرار من قرارات هيئة الأمم المتحدة، بما في ذلك قرار التقسيم لعام 1947، وذلك بالرغم من أن إعلان قيام دولة الكيان الصهيوني قد استند إلى أحد جزأيه فقط.
بل لم يُقدَّم أي مشروع حلّ للقضية الفلسطينية إلاّ تضمن كسباً جديداً للكيان الصهيوني الفاقد لكل شرعية، إلاّ وقوبِلَ من القيادات الصهيونية بالتحفظ أو الغضب. ومع ذلك دأبت المواقف الفلسطينية والعربية الرسمية تُسّوغ ما يكون قد قدّم من مكاسب للكيان الصهيوني، باعتباره مقبولاً استناداً إلى الغضب الصهيوني منه، وليس إلى ما يعنيه بحدّ ذاته.
فعندما تحدد موقفك من أي قرار أو مشروع أو اتفاق بناءً على موقف الكيان الصهيوني السلبي منه، تفقد البوصلة التي تحدّد الاتجاه نحو الأهداف والثوابت الأساسية للقضية الفلسطينية؛ فقرار مجلس الأمن الرقم 242، على سبيل المثال، لم يُوافق الكيان الصهيوني عليه وعارضه ورفض تطبيقه بالرغم مما احتواه من مكاسب له، واخترقات خطيرة لثوابت القضية الفلسطينية. فالقرار كرّس احتلال الجيش الصهيوني 24% من أرض فلسطين وضمّها لدولته زيادة عن الـ 54% من الأرض التي أعطاها له- ظلماً-قرار 181 لعام 1947. ثم أسقط حق العودة من خلال إيجاد "حل عادل لقضية اللاجئين"، وقرّر "حق" دولة الكيان الصهيوني بالوجود.
هذا نموذج لبعض ما قدّمه قرار دولي من تنازلات وطعنات للقضية الفلسطينية، وقد قوبِل بالرفض الصهيوني فاعتبر البعض أن رفض الكيان الصهيوني يقتضي اعتبار القرار إيجابياً أو انتصاراً. وهو ما راح يتكرّر حتى يومنا هذا مما أدّى إلى تآكل الموقف الفلسطيني والعربي الرسمي، حتى وصل إلى ما وصله الآن.
لقد حرصت السياسة الصهيونية منذ ما بعد انتهاء الحرب العالمية الأولى واحتلال الاستعمار البريطاني لفلسطين، ألاّ توافق على أيّ قرار أو مشروع حلّ فتأخذ ما يتضمنه من مكاسب جديدة لها وتعارض الجزء الذي يعطي شيئاً للفلسطينيين. وإذا كان هناك من يشك في ذلك فليراجع الطريقة التي تعاملت بها الحكومات الصهيونية مع مبادرة السلام العربية لعام 2002، حيث قَدِّمت لها المبادرة تعهداً عربياً بالاعتراف بدولة الكيان الصهيوني مقابل الانسحاب من الأراضي المحتلة عام 1967. فقد اعتبرتها إيجابية في الجزء المتعلق بالتعهد العربي بالاعتراف بدولة الكيان، ورفضت القبول بها كلها، الأمر الذي سمح لمن يريد تغطية التنازل المجاني الخطير الذي قدّمه القرار العربي، من خلال المبادرة بالاستناد إلى عدم قبول الكيان الصهيوني لها أو نقده للجزء الآخر منها.
وهكذا يُكرّر كثيرون الوقوع بالفخ نفسه وهم يقوّمون اعترافات البرلمانات الأوروبية بالدولة الفلسطينية أو لجوء سلطة رام الله إلى المنظمات الدولية للاعتراف بعضوية دولة فلسطين. صحيح أن ثمة بُعداً مختلفاً جزئياً هنا عن قرارات هيئة الأمم السابقة، أو ما كان يُقدّم من حلول للقضية الفلسطينية، وهو المتمثل في أن البرلمانات الأوروبية لا تُضيف للكيان شيئاً لأنها معترفة به أساساً، وإنما تضغط عليه ليعترف هو بدولة فلسطينية تخرج إلى الوجود بالتفاوض معه، أي بمراعاة شروطه. وكذلك الحال بالنسبة إلى مجلس الأمن والمنظمات الدولية في هذه المرحلة.
هذا البعد يحمل أهمية كونه يأتي من البرلمانات الأوروبية التي تعترف بالكيان الصهيوني أن يزيد من عُزلة الكيان سياسياً. ولكن يجب عدم المبالغة بأهميته، كما يفعل البعض، ويجب عدم السماح بجعله الشكل الرئيسي للنضال الفلسطيني، بدلاًَ من أن يكون جزءاً من استراتيجية الانتفاضة والمقاومة على الأرض. وأما ثالثاً فيجب أن يُصار إلى التحفظ عما يحمله هذا البعد من اعتراف بدولة الكيان الصهيوني، ورهن للقضية الفلسطينية على التسوية والمفاوضات ممن يؤيدونها تحريراً من النهر إلى البحر.
وبكلمة (هذا البعد) يحمل درجة من الإيجابية. ولكن إذا بولِغ فيه أو اعتُبِرَ إيجابياً ونقطة على السطر، فمضاره أكثر من نفعه، ويصبح تسطيحاً بين ما هو رئيسي وثانوي.