من الطبيعي أن يحتفل المحسوبون على المحور
الإيراني، كتابا وسياسيين وشبيحة من كل صنف ولون بعبارة "شكرا إيران" التي أطلقها أبو عبيدة في مهرجان القسام قبل يومين، ومن الطبيعي أن يصل الحال ببعضهم حد التدليس بالقول إن الحركة قد استبدلتها بعبارة "شكرا قطر، شكرا تركيا"، التي قيلت بعد انتصار الحرب الأخيرة، متجاهلين أنه شكر من ساعد، "وفي المقدمة" كما قال؛ قطر وتركيا، وجاء شكر إيران في البداية معطوفا على توضيح على ما قدمته للمقاومة لتعزيز قدراتها، وهي إشارة واضحة إلى ما قُدم قديما، لأن القاصي والداني يعلم يقينا أن إيران لم تقدم منذ ثلاث سنوات أي شيء لحماس (في الحرب الأخيرة قدمت الدعم الكلامي بعد 17 يوما من بدء الحرب!!)، ربما باستثناء بضعة ملايين عبر رموز بعينهم، ليست كدعم، بل من أجل التلاعب بقرار الحركة الداخلي كما هي سيرة إيران مع كل التنظيمات التي تدعمها، بما فيها تلك التي لا تساوم على ولائها لطهران.
لم ننكر، ولم ينكر أحد يوما ما قدمته إيران لدعم المقاومة وحماس، وهو دعم ما كان لها أن ترفضه في ظل الحصار العربي التقليدي، وفي ظل عدم افتضاح الأجندة الطائفية للنظام الإيراني كما تتبدى هذه الأيام، وحيث لم يعد قاسم سليماني داعما للمقاومة، بل حامي المذهب كما يتردد في الأناشيد التي يجري تدبيجها لعيونه. ولا أسخف في واقع الحال من قول بعضهم في معرض المزايدة إن كتابا محسوبين على
حماس، شتموا إيران أكثر من الكيان الصهيوني، لكأن المواقف من الصهاينة تقاس بالشتائم، وليس بالدعوة إلى تبني خيار المقاومة والانتفاضة!!
الموقف الذي اتخذته الحركة من الثورة السورية كان موقفا أخلاقيا صائبا، وإذا كان قلة قليلة جدا قد رأوه في غير مكانه، فذلك لأن عقلهم صار محصورا بالكامل في قطاع غزة بعد مصيبة المشاركة في انتخابات أوسلو، والاضطرار تاليا لتشكيل سلطة في قطاع محاصر. صحيح أن حماس قد أنجزت شيئا عظيما ويستحق الفخر من حيث بناء قاعدة للمقاومة وكسر إرادة العدو في ثلاث معارك بطولية، لكن ذلك سيبقى أقل تأثيرا من اشتباكها والشعب برمته مع الاحتلال في الضفة الغربية والأراضي المحتلة عام 48 (ومعها القطاع في حينه)، خلافا للقطاع المحاصر وشبه المحرر الذي يرد العدوان باقتدار، لكن لا يمكنه شن حرب ضد الاحتلال وحيدا في ظل ميزان القوى المعروف على مختلف الأصعدة.
بوسعنا وكثيرين أن يتفهموا ذهاب وفد من حماس إلى طهران، ومن ثم شكرها في المهرجان، وذلك من أجل إرسال رسائل لمن يتآمرون عليها، وما أكثرهم بين العرب، وعلى أمل الحصول على بعض الدعم، لكن واقع الحال أن شيئا من ذلك لن يحدث بالمعنى الواقعي للكلمة، فلا إيران في وضع من يمكنه تقديم الدعم الحقيقي؛ هي التي تقلصه على أقرب الأتباع في ظل نزيف
سوريا والعراق واليمن، وتدهور أسعار النفط، ولا الآخرون المستهدفون بالرسائل سيرعوون، وهم يعتبرون أن أولويتهم هي حرب الإسلام السياسي قبل إيران، وحماس من أهم روافعه، بل ربما وجدوا تبريرا أنسب لما يفعلون بحسبانها على محور إيران، فضلا عن أن عربتهم المقدمة (السيسي)، يضيف إلى العداء (بسبب خلفية الحركة الإخوانية)، تنفيذا للأوامر، وردا لجميل بعض العرب ونتنياهو، مع ضرورة التذكير هنا بأن حصار حماس ليس جديدا في المجال العربي، وإن بدا اليوم أكثر بكثير في ظل هيجان الثورة المضادة لربيع العرب، مع أن إيران جزء منها، إذ طاردته (ربيع العرب) في سوريا، والآن في اليمن بكل قوة.
أما الموقف من سوريا، فلم ولن يتغير، ولا أظن الحركة تتورط في شيء كهذا، وكان ذلك واضحا في كلام خالد مشعل أول أمس، وطهران تدرك أن حماس لن تغير على هذا الصعيد، ولو فعلت فسنكون أول من يهجوها بلا تردد.
أما الفائدة التي ستجنيها إيران من هذا التقارب، فهي محدودة، بل ربما معدومة، ذلك أن حربها المذهبية قد باتت أكثر فضائحية من أن تسترها عباءة حماس، ولا من هُمْ أكبر من حماس. وما فعلته مؤخرا في اليمن كان قاصمة الظهر على هذا الصعيد، حيث انقلبت على ثورة شعب رائعة بالتحالف مع دكتاتور فاسد ثار الشعب ضده.
لم تعلن غالبية الأمة الحرب على إيران، ولم تفكر في ذلك، بل إيران من فعل في رابعة النهار. إذ هي من أعلن الحرب في سوريا لصالح طاغية يقتل شعبه، وساهم في إجهاض ربيع الشعوب، وهي من دعم طائفية المالكي في العراق، وهي من دعم عدوان الحوثيين الأخير. أما الأهم فهو أن إيران اليوم ماضية باتجاه تفاهم مع أمريكا على النووي، وبعده على ملفات أخرى ستكون فلسطين من بينها، ولا يشتري حكاية وعودها بنقل السلاح إلى الضفة إلا الأتباع والمستفيدين، فلا هي قادرة على ذلك، ولا هي تملك الإرادة لتفعل، ولا حتى الإمكانية. ومن يغازل الصهاينة كل حين، ومن يقول مساعد وزير خارجيته إن بقاء الأسد هو الضامن لأمن الكيان الصهيوني، ومن لا يرد العدوان على دمشق، ومن يحتفي بعباس في إعلامه "الممانع".. من هذا حاله لن ينفذ وعدا كالمشار إليه.
فلسطين قضية مقدسة، وأخلاقيتها مسألة لا يمكن المساومة عليها، وشعبها لن يقبل استخدامها من قبل أي أحد في سياقات مشبوهة، ومن يقتل السوريين ويمارس العدوان في العراق ويحوِّل المالكي (الدكتاتور الفاسد) الذي جاء على ظهر دبابة أمريكا إلى "ممانع"، ومن يحرّض الحوثيين على العدوان، لا يمكن أن يكون حريصا على فلسطين، والفلسطينيون، وفي مقدمتهم أنصار حماس وكوادرها يدركون ذلك.
لقد فاحت راحة البعد المذهبي لسلوك إيران على كل صعيد، وفاحت رائحة كثيرين يطبلون لها لاعتبارات كثيرة لا صلة لها بالمبادئ ولا بالأخلاق. ومن جهتنا، لن نكون إلا مع غالبية الأمة مقتنعين أنها الأحرص على فلسطين، والأكثر عداء للمحتلين بعيدا عن التكسب بالشعارات التي تستر خلفها أجندات مفضوحة تنقل تفاصيلها التصريحات والمواقع الإيرانية بشكل يومي.
لكن ذلك لن يقلل من ثقتنا بحماس كحركة مجاهدة، قد تخطئ التقدير أحيانا، لكن بوصلتها ستبقى صائبة بإذن الله، وهي ستظل وفية لإرثها حتى تتحقق الأهداف التي من أجلها تأسست، ومن أجلها ضحت بقافلة طويلة من أروع الشهداء.