مع الساعات الأولى من فجر آخر يوم اثنين من شهر تشرين الثاني/ نوفمبر من كل عام، تتحول العاصمة السويسرية برن إلى عاصمة للبصل، في
عيد سنوي يحمل اسم "
سوق البصل" هو في واقع الأمر عيدٌ يُحتفى فيه بالبصل، وكأنه ملك الخضروات وخير ما أنبتت المزارع.
وتُعطل في هذا اليوم مدارس العاصمة الابتدائية لنصف يوم لتُشد الرحال إلى هذا العيد، ويتم تحويل مسار المواصلات العامة التي تخترق وسط المدينة، وتُسيَّرُ فيه قطارات خاصة من مختلف أنحاء
سويسرا للوصول إلى العاصمة في وقت مبكر من اليوم للمشاركة في هذا العيد، الذي تحرص نشرات الأخبار الرسمية على التنويه ببدايته ونهاية فعالياته.
يتحول وسط المدينة في هذا اليوم إلى ساحة كبيرة تجمع كل ما له علاقة بالبصل، وقد يظن المرء أنه سيرى أجولة وصناديق معبأة البصل ومشبعة بغبار المزارع وطينها، إلا أن العكس تماما هو ما يراه الزائر.
بصل وثوم في أبهى زينتها إنتاجاَ وديكوراً وطعاماً مختلف أنواعه ولكنه دائما يحتوي البصل، مثل فطائر البصل وفطائر بالجبنة والبصل، وحساء البصل، وبيتزا البصل خصيصا لهذا اليوم، وقد يندهش الزائر كثيرا إذا رأى وجبة للتفاح أو البرقوق بالبصل.
يختلف المؤرخون حول خلفية هذا العيد، فمنهم من يعيده إلى بدايات القرن الخامس عشر، حيث قرر فلاحو منطقة برن وقتها فتح أسواقهم في هذا الوقت من كل عام للفلاحين من مقاطعة فريبور جنوبي المدينة، شكرا لهم على دعمهم في مواجهة حريق هائل تعرضت له مزارع برن آنذاك.
بينما يذهب فريق ثان من المؤرخين إلى أن هذا العيد يرجع إلى منتصف القرن الخامس عشر، كمكافئة من سكان برن لسكان فريبور على دعمهم في حربهم ضد جنود دوقية بروغونيا الفرنسية والتي كانت تهيمن على الكثير من المناطق السويسرية التي كانت تسعى إلى الاستقلال والانضمام إلى الاتحاد السويسري الذي كان ناشئا وقتها.
لكن المؤرخين ينظرون إلى هاتين الروايتين على أنهما مستوحاتان من القصص الشعبية وليس لهما أسانيد تاريخية مكتوبة موثقة، لذا اعتمد أغلب المؤرخين الرواية القائلة بأن هذا العيد يرجع إلى منتصف القرن التاسع عشر، مع ازدياد الاحتفالات الشعبية في المنطقة الواصلة بين جنوب ألمانيا ووسط سويسرا والمسماة وقتها بأعياد "مارتيتي" تيمنا بذكرى وفاة قديس ذاع صيته منذ القرن الرابع الميلادي يُدعى "مارتين التوروسي"، وتوارثت تلك المناطق تقليد الاحتفال به كنوع من الاستعداد للاحتفال بأعياد الميلاد في الأسبوع الأخير من شهر كانون الأول/ ديسمبر من كل عام.
ويروي المؤرخون الواثقون من صدقية تلك الرواية تطور هذا الاحتفال من "احتفال ديني" إلى "كرنفالات شعبية" ثم إلى أسواق عامة يتبادل فيها المزارعون من مختلف المناطق منتجاتهم لتخزينها خلال فترة الشتاء وبيعها في أسواقهم المحلية، حيث لم تكن وسائل المواصلات وقتها تسمح بنقل سريع للخضروات والمنتجات الزراعية بسبب الثلوج، لاسيما في المناطق الجبلية الوعرة.
لكن المزارعين، وفق رواية هؤلاء المؤرخين، لاحظوا وجود إنتاج وفير وذو نوعية جيدة من البصل في المناطق المحيطة بمدينة برن، يطغى حضوره بغزارة الإنتاج على بقية المنتجات الزراعة المطروحة للعرض، فضلا عن تفنن الفلاحات وقتها في طريقة عرض البصل للبيع، من خلال تزيينه على شكل ضفائر، ولكنه لا يلقى إقبالا كبيرا، فقرر الفلاحون تخصيص يوم للبصل في آخر يوم اثنين من شهر تشرين الثاني/ نوفمبر، على أن يكون هذا الاحتفال متميزا، بكل ما يتعلق بالبصل مع الحرص على أن يكون السعر غير ثابت طيلة اليوم، بل يمكن الفصال فيه، ثم جرى العرف على أن يبدأ السعر رخيصا في بداية السوق، ويرتفع مع اقترابه من نهايته مع حلول المساء.
ومع مرور الوقت وانتشار صيت هذا السوق بسبب تنوع البصل المعروض فيه وأشكاله الفنية، تحول إلى عيد البصل وتزايد الإقبال عليه بشدة من جنوب ألمانيا إلى عموم أرجاء سويسرا، كما تفنن بائعو البصل في تقديم منتجاتهم، بين زينات مختلفة وأطعمة يدخل فيها البصل كعنصر أساسي فيها، مثل فطائر البصل، وفطائر البصل بالجبن، وحساء البصل.
كما احتفظ هذا العيد أو بالأحرى نقل معه عددا من الفعاليات التي كان يشهده الاحتفال بالقديس مارتين مثل التراشق بقطع الورق الصغيرة الملونة والمعروفة باللهجة الدارجة بـ(كونفِتِّي)، والحفلات الموسيقية التي تضم أنواع الموسيقى الشعبية التقليدية السويسرية، ومع مرور الوقت تلاشى الاحتفال بيوم رحيل القديس مارتين، وتوارى طي النسيان ليحل محله عيد البصل.