هل ستحسِم
انتخابات تونس الرئاسية مصير ثورة شباب إفريقية وريفها الفقير؟ هل ستنصِف أحزمةَ الفقر وأبناءه من المعذبين في الأرض فتحدِّد مسار ربيع العرب ووجهته الأخيرة؟ هل ستحقق بعضا من آمال من خرج طالبا الكرامة أولا والحرية ثانيا ومحاسبة العصابة ثالثا ؟ هل يمكن أن نعود فعلا للمربع الأول ونكتشف أن الدولة العميقة أعمق مما كنا نتصور وأن الثورة المضادة أشرس مما كان الجميع يتوقع؟
كل هذه وغيرها استفهامات وأسئلة تخيّم اليوم على كامل ربوع الوطن المقاوم لواحدة من أشرس شبكات الاستبداد في تاريخ العرب الحديث. الترقب هو سيد الموقف الآن حيث ترصد أعين الثوار من القابضين على الجمر حركات الأفاعي السامة وقد غادرت جحورها من جديد واكتسحت المشهد فجأة وصارت تهدد الثوّار علنا بأن ساعة الحساب قد أزفت. الكواسر الجارحة عادت تحلق في سماء إفريقية ترصد سقوط الطريدة وقد أثخنت جسدها طلقات "إعلام العار" اليومية وحرائق النقابات العمالية التي ركّعت الاقتصاد الوطني تركيعا.
يعود اللصوص أو "عصابة السرّاق" كما يسميهم التونسيون إلى المشهد يتلحّفون دخان الحرائق الاجتماعية التي أشعلتها قيادات الاتحاد العام للشغل في كل ربوع الوطن فعمقت جراح الاقتصاد المنهك أصلا بعد سنوات من النهب المنظم ومن الإفساد المنهجي المهيكل. طلائع جيوش الظلام التي تحتل منصات إعلام العصابات أعلنت في لحظة صدق لاواعية أنها ستنتقم ممن أطرد سيدهم وهدّد مصالحهم بل إن منهم من صرّح علنا على الشاشة أنه يتمنى أن يحكم تونس الوزير الصهيوني " ناتِن ياهو" وأن لا يحكمها الثوار أو من يمثلهم.
دروس التاريخ كلها وسيَر الثورات جميعها تنبؤك بأن "للحرية الحمراء بابٌ بكل يد مضرجة يدق" وبأن نصف الثورة هو أهلكُ مآلا للثوار من اللاثورة و أن من يقوم بنصف ثورة فإنه كمن يحفر قبره بيديه. فرنسا الدولة الأوروبية الكبيرة أنجزت ثورتها العظيمة عندما طهرت نفسها من شبكات الفساد ومن عصابات البورجوازية المتعفنة من أعالي مصاقل الباستيل الشهيرة. البلاشفة أنفسهم من ثوار 1917 واجهوا الجيوش البيضاء التي احتلت نصف موسكو قبل أن يطهروا بلادهم من الإقطاعيين ومن عصابات القيصر. الثورة الإيرانية طهرت نفسها من عمالة الشاه رجل أمريكا في المنطقة قبل أن يتسلمها المعمّمون من أنصار ولاية الفقيه. تونس هي الدولة الوحيدة في العالم التي كانت العصابة تغني من داخل قصر قرطاج " ولا عاش في تونس من خانها " أمام زعيم الخونة بن علي نفسه قبل أن يهرب من القصر نفسه.
الأكيد هو أن صفقة أبرمت في الخفاء بين الدولة العميقة من الناحية وبين أطراف كانوا في حكومة الترويكا أو الثلاثي الحاكم وبين قوى أجنبية من ناحية أخرى تحرص أبدا على أن لا يُمس وكلاؤها وعملاؤها في تونس. العصابة تعود اليوم إلى تونس بعد أن أمنت المحاسبة والقصاص وتأكدت أن الثورة في صورتها الأولى قد أجهضت وأن ما تبقى من الثورة أو من النفس الثوري لن يقدر على محاسبتهم بعد أن فعّلوا آلة الإرهاب الجهنمية كلما طرح قانون العدالة الانتقالية أو قانون تحصين الثورة. الإرهاب في تونس هو صناعة الدولة العميقة بامتياز نجحت في استعماله بشكل كبير سواء من خلال عمليات الاغتيالات السياسية التي حدثت خلال مرحلة الانقلاب على الثورة وعلى الشرعية أو من خلال الجماعات الإرهابية المشبوهة التي جعلت من جبال الشعانبي في ولاية القصرين من منطقة الشمال الغربي التونسي مقرا لها.
الثورة التونسية لم تطهر منظومة القضاء الفاسدة التي كانت ركنا أساسيا من أركان نظام الاستبداد الذي صنعه بن علي وتحكم به في رقاب التونسيين وثرواتهم خلال ما يزيد عن عقدين من الزمان. لا ننكر كذلك أن الأيادي المرتعشة التي تسلمت السلطة بعد انتخابات 2011 وخاصة من المحسوبين على التيار الإسلامي قد ساهمت بقسط كبير جدا في الحال الذي وصل إلية المسار الثوري اليوم حيث توشك الدولة العميقة على تسلم السلطة في تونس بسيطرة مطلقة على مجلس النواب ورئاسة الحكومة ورئاسة الجمهورية.
المشهد الجديد الذي ستتمخض عنه الانتخابات الرئاسية غدا سيكون مصيريا في تحديد مستقبل البلاد من ناحية ومستقبل الربيع العربي من ناحية أخرى. زيارة أحد عرابي الانقلاب المصري وهو رجل الأعمال نجيب ساويرس لحزب الرئيس الهارب بن علي أي التجمع الدستوري الديمقراطي في ثوبه الجديد هي إعلان مسبق عن طبيعة النظام السياسي التونسي في حال فوز العجوز التسعيني برئاسة دولة مازالت تخرج للتو من ثورة الشباب. أما وعود الدول الراعية للانقلاب في المنطقة العربية بمنح تونس مليارات الدولارات في حال فوز حزب بن علي بالانتخابات الرئاسية القادمة فكلها مؤشرات على الخطط التي تطبخ في الخفاء من أجل تحويل مسار الثورات العربية نحو متاهات غير تلك التي تنشدها الجماهير من أجل ترسيخ حالة اليأس من التغيير وتأبيد حالة الموت العربي.
من الصعب الإقرار بان الحرائق الاجتماعية التي تم إشعالها في تونس بعد الثورة و تشغيل مخلب إرهاب الدولة والإرهاب العالمي المنظم من أجل خنق مطالب الشعوب بالحرية والكرامة لم تنجح في خنق النفس الثوري وفي مسح الحالة الثورية من السلوك اليومي للمواطن العربي حتى أُقنع بأن الربيع شتاء وأن الأزهار لم تتفتح يوما. لقد تحولت العصا القامعة لرغبة الشعوب في التحرر والتغيير من سياط الجلاد المستبد إلى عصا الإرهاب المعولم أي أن الشعوب العربية والمسلمة تجد نفسها اليوم بين خيارين إما أن ترضى بجلاديها وبالنهب المنظم لثرواتها ولقوت أبناءها وإما أن تذبح بتهمة الإرهاب -الإسلامي طبعا- مثلما حدث في الجزائر خلال التسعينات من القرن الماضي ومثلما هو الحال في سوريا وتونس وليبيا والعراق وكل مزارع الموت العربية.
لكن السؤال الذي يبقى معلقا : إذا نجح الانقلابيون وتمكنت نخب العار العربية وجلادو العسكر المتحالف مع المال الخليجي الفاسد من قتل الثورات العربية فما هم فاعلون بالوعي الناسل عن هذه الثورات؟ وهل يمكن اغتيال الوعي الناتج عن التراكم الاجتماعي وعن حركة التاريخ ؟ وهل ستكون الثورات العربية القادمة سلمية؟