كانت مجرزة الكيماوي في آب/ أغسطس 2013، التي كان أغلب ضحاياها من الأطفال، علامة فارقة في مسلسل استهداف الطفولة في مناطق
الغوطة، إلا أن معركة
الجوع التي يشنها النظام السوري على هذه المناطق لا تقل فتكا عن الكيماوي، وتحصد ضحاياها كل يوم، وخصوصا من الأطفال.
تقول رنا التي تسكن غوطة دمشق الشرقية: "للأطفال في
سورية حكاية أخرى مع الموت، عندما سقط أول طفل في سورية كنا نجلس مشدوهين أمام شاشات التلفاز من هول الصدمة، نفرك عيوننا لكي نخرج من كابوس وجدنا أنفسنا فيه فجأة. كنا ننزوي مع أنفسنا نفكر، هل حقاً يمكن لأحد أن يقتل روحاً ملائكية بريئة؟".
تتابع: "عندما خرج حمزة الخطيب من المعتقل شهيداً تحت التعذيب ضج العالم بصور مأساوية تحكي حكاية الموت السوري على أجساد غصة. كنا نكذّب الصور لكن الدم كان أصدق من كل رعب داخلنا، وتتالت مجازر الأطفال وتتالى ذبحهم وكانت قصصهم تلهبنا ألماً، هذه الحرب كانت الأقسى". تستدرك قائلة: "أذكر مناظر الأطفال المذبوحين في إحدى مجازر حمص، عندما كانت ثيابهم مبللة من الرعب، كيف لرقبة غضة أن تقطع؟ كم مرة شحذ القاتل السكين؟ أليس رحمة لو قتل الأم معه؟".
اليوم وبعد مرور أربع سنوات من عمر الحرب، لم يتغير شيء سوى أننا ألفنا الدم، وكأن الحرب كان طوال هذه المدة لنألف الموت، لنعايشه، صرنا إذا سمعنا خبر موت أحدهم ميتة طبيعية نفرح داخلياً أن هذا الموت الطبيعي لا زال في سورية، مات بلا دماء!
تتساءل رنا ماذا عن موت الأطفال؟ لم تستفق الغوطة من مجرزة الكيماوي التي كان أغلب ضحاياها من الأطفال حتى بدأت تخوض معركة الجوع، في محاولة من النظام لأن يحول منطقة ذات رمز ثوري كبير لدى الكثير من الثوار إلى منطقة تغص بقصص البؤساء والمحاصرين، ولم ينس الأهالي أطفالاً ماتوا اختناقاً، حتى الهواء ضاق بهم، صاروا يودعون أطفالهم وهم هياكل عظمية نهش فيها الجوع وسوء
التغذية بعد
الحصار الذي فرضه النظام على الغوطة الشرقية.
في نهاية 2012 انسحب النظام من الغوطة الشرقية، وانسحبت معه كافة الخدمات الأساسية في المنطقة من الكهرباء والمياه والوقود والاتصالات، حتى مؤسسات الدولة هناك أغلقت أبوابها. وبدأ فرض الحصار بشكل تدريجي على المنطقة حتى وصل إلى الشهر العاشر في 2013، وأحكم إغلاق كل شيء في الغوطة، وبات الأهالي هناك محاصرين. ما يزيد عن مليون ونصف المليون إنسان باتوا محاصرين بالكامل.
صارت المواد الغذائية الأساسية والمواد الطبية ووقود التدفئة تباع بأسعار خيالية. حتى الطرق السرية والمعابر التي كان يسلكها الثوار لإحضار القليل من المواد الأساسية للأهالي هناك، كمعبر حرستا ومعبر الوافدين، سيطر عليها النظام بشكل كامل، ولم يعد يمر من تلك المعابر إلا ما ندر من سيارات الحمولة وبموافقة أمنية من النظام، حيث تُرك الناس هناك ليلاقوا مصيرهم المجهول.
إلى أن جاء صيف 2013، وبدأت حالات الجفاف تطال المسنين والأطفال، وبات هؤلاء يتردودن على النقاط الطبية في المنطقة، بحسب الدكتور ماجد أبو علي، مسؤول المكتب الطبي الموحد في الغوطة الشرقية.
ومع ضعف الخدمات وندرة الزراعة وتلوث مياه الشرب وقلة وسائل التشخيص والعلاج، انتشر الجفاف وسوء التغذية بشكل كبير في الغوطة، وباتت الانتانات الهضمية ترافق الأمراض المتعددة للأطفال، وصار الحليب غذاء يحلم به الكثير من الأطفال.
الأمر الأسوأ أن الأطباء استنزفوا ما لديهم من أدوية، وصار هناك طلب على الكثير من الأدوية التي تستخدم لعلاج هذه الحالات كالسيرومات. ونتيجة انقطاع الكهرباء لفترات طويلة متواصلة تعطلت الكثير من الأجهزة الطبية في المشافي الميدانية.
اليوم ومع امتداد هذه الأزمة لم يعد الأطباء يستطيعون تشغيل المولدات لفترات طويلة، لأن التشغيل بات مكلفاً جداً، مما يعني مكوث آلاف الحالات المصابة في النقاط الطبية دون معرفة لمصيرها المجهول.
وتوفي 114 طفلاً نتيجة الجوع وسوء التغذية في الغوطتين الشرقية والغربية، بحسب المركز السوري للإحصاء والبحوث.
الغوطة الشرقية التي كانت رئة دمشق بل رئة سورية وكانت توزع خيراتها على كل المحافظات؛ صارت تموت من الجوع. ولم يعد هناك ذاك التنوع في الزراعة، والثروة الحيوانية انعدمت بشكل كامل تقربيا، ونتيجة التلوث في المياه هناك بفعل القصف المتواصل واستخدام الأسلحة المحرمة دولياً.
الغوطة التي كانت الشعراء يتغنون بعذب مياهها ورونق شجرها، صارت مياهها قاتلة وبات شجرها من ذكريات الزمن الماضي.
تقول رنا: "عشرات القصص لأطفال ماتوا من الجوع، يتحدث عنها الفقر هناك، فآلاف حالات الإغماء تصلنا منذ الشتاء الماضي لأطفال في المدرسة نتيجة قلة التغذية، هكذا يتحدث الدكتور ماجد أبو علي. لا نستطيع أن نطلب من الأهل تحسين غذائهم لأنهم بالكاد يجدون قوت يومهم، فكيف نطلب منهم مالا يقدرون عليه؟".
تتابع: "حتى أننا طلبنا من الأهالي عدم إرسال الطعام إلى المدارس مع أطفالهم، لأن الكثير من الأطفال لا يستطيعون إحضار وجباتهم معهم، فهم محكومون بوجبة واحدة يومياً تقيهم شر الجوع".
الطفلة هلا أتى بها الكادر التدريسي إلى المشفى الطبي في دوما، كان يبدو عليها ملامح الجوع وسوء التغذية، "وعندما طلبنا من الأم أن تهتم بتغذية ابنتها جيداً وألا تخرجها من البيت دون أن تطعمها أجابت: عندي ابنتين لا أستطيع أن أطعمها سوية، فتصوم إحداهما يوماً لتأكل الأخرى".
حتى الميسورون من الناس في الغوطة باتوا من فقرائها. يتحدث الدكتور ماجد عن أحد الرجال الذي كان يذهب إليه الجميع كلما احتاجوا مالا، كيف أنه بات يوقد الحطب مرة واحدة في اليوم لتحضير وجبة واحدة لأطفاله الخمسة فلا قدرة لديه أن يطعمهم وجبتين في اليوم!
المؤسف في الأمر أن لا علاج حاليا لمشكلة سقوط الأطفال من الجوع بشكل مستمر، فالحصار لا زال قائماً، والأغذية التي من المفترض أن يكون فيها تنوع باتت معدومة، ولا قدرة للأطفال على الصيام عن الأكل لفترات طويلةـ ولا قدرة لأجسادهم على تحمل الجوع وانعدام الغذاء. والمأساة تكمن في معرفة المنظمات العالمية لهذه الحقائق وعدم تحركها، ليتم توثيق آخر ضحايا الجوع منذ أيام في سقبا لطفل رضيع نتيجة سوء التغذية، سبقه في نفس الأسبوع طفل في دوما، ليستمر قطار الموت يحصد المزيد من الأطفال في سورية، لكن هذه المرة ليست بنيران نظام الأسد ولا براميله المتفجرة، إنما جوعاً وفقراً.