في أي جريمة تُرتكب، يبحث المحققون عن المستفيدين منها، لمعرفة من صاحب المصلحة فيها، ومن ثم مرتكبها المباشر، أو غير المباشر، سواء ارتكبها بنفسه أو حرض عليها، أو خطط لها ومولها!.
ثمة في
غزة المثخنة بالجراح جريمة، بدا أن مرتكبها تعمد أن لا تتلطخ بالدم، بل بإذكاء نار خلاف موجود أصلا، لكن ثمة خشية في أن يخبو قليلا، تفجير بيوت رجال
فتح في غزة، أثارت لغطا وتساؤلات كثيرة، في أوساط حركتي فتح وحماس على حد سواء، وبدا أنها جهد استباقي لصرف النظر ولو قليلا عن انتفاضة القدس، أو ربما منع تطورها على نحو مفاجئ إلى آفاق تقلق إسرائيل كثيرا، خاصة بعد تهديد فصائل مقاتلة في غزة تحديدا، بأنها لا تستطيع أن تقف على الحياد، فيما معركة الأقصى تحتدم، الأمر الذي يعني إمكان انهيار الهدنة بين المقاومة وإسرائيل، التي تراوح في منطقة مقلقة، ربما لجميع الأطراف، خاصة وأنها لم "تثمر" عن أي نتيجة ذات مغزى لرفع المعاناة عن أهل غزة، وبالتالي، ثمة تململ كبير يدور في الشارع الغزي، قد يتطور إلى ما هو أكثر من ذلك، لن نتسرع هنا باستخلاص يجيب عن السؤال الكبير، الخاص بمن قام بتفجيرات غزة، قبل أن نقرأ مواقف الأطراف، ومصلحتها بهذا الحدث!.
وكان مجهولون، فجروا فجر الجمعة، أجزاءً من عدة منازل لقيادات في حركة فتح، ومنصة الاحتفال بذكرى رحيل الرئيس الفلسطيني ياسر عرفات، (زعيم الحركة) بعبوات ناسفة، دون أن يسفر ذلك عن وقوع إصابات، وتزامنت التفجيرات في وقت واحد، واستهدفت منازل كل من: محافظ غزة وعضو اللجنة المركزية لحركة فتح السابق، عبدالله الافرنجي، وعضو المجلس الثوري للحركة، محمد النحال، والمتحدث باسم الحركة، فايز أبو عيطة، وعضو الهيئة القيادية للحركة، عبد الرحمن حمد، ووزير شؤون الأسرى الأسبق، هشام عبد الرازق، وعضو المجلس التشريعي (البرلمان)، فيصل أبو شهلا، وقيادات أخرى.
فيما يتعلق بحماس، وهي المسؤولة عن الأمن في غزة حتى الآن، لا يمكن لها أن تقوم بعمل من شأنه إظهارها وكأنها غير ممسكة بزمام الأمور، هذا من ناحية، ومن ناحية اخرى، فلا يوجد أي مصلحة لها للقيام بمثل هذا العمل، خاصة وأنها تعيش مأزقا حقيقيا على غير صعيد، وليست من الغباء بحيث تضيف مشكلة جديدة إضافة لما تعاني، في ضوء تكالب عربي إسرائيل محكم لحرمانها من قطف أي ثمار سياسية لمنجزها العسكري، إبان عدوان إسرائيل الأخير، ولهذا فهي أول طرف يخرجه أي محقق عاقل من دائرة الاتهام، علما بأن حركة
حماس، وعلى لسان المتحدث الرسمي باسمها، سامي أبو زهري، أدانت التفجيرات، ودعت الأجهزة الأمنية لتحقيق وملاحقة المتورطين وتقديمهم للعدالة.
أما فتح فهي في حالة رخوة وسيلان تنظيمي، وتورط محرج على الصعيد الشعبي، كونها تقف في بؤرة سلطة "وطنية" تجتهد ليس في منع امتداد انتفاضة القدس إلى بقية "مناطقها" بل تكرس جهدا جبارا للإجهاز على انتفاضة المدينة المقدسة، ولا تدخر أي جهد في تقديم العون الاستخباري، وربما اللوجستي غير المباشر، لسلطات الاحتلال، كونها ممنوعة "رسميا" من العمل في منطقة القدس، ولا يتصور عاقل أن تكون في وارد إنهاك حركة حماس، المنهكة أصلا، والمحاصرة إسرائيليا وعربيا، فضلا عن أن
تفجيرات غزة لا تشكل لها أي قيمة مضافة، في "معركة" التنافس على قلوب الفلسطينيين، وتسجيل النقاط في ظرف مبهم ومختلط ومليء بالفوضى!
يبقى الطرف الإسرائيلي، ومن يناصره من أنظمة العرب المهتمة بإنهاك حماس، والإمعان في إضعافها، وحرمانها من أي التقاط للأنفاس، والاجتهاد في تحريض الشارع الغزي عليها، وإشاعة روح من عدم الأمان، عبر تصويرها وكأنها غير ممسكة بزمام الأمور، والمحقق المنصف يرى أن إسرائيل وحدها هي صاحبة المصلحة في زيادة تفجير المشهد الغزي، وإذكاء نار الخلاف، ويدعم وجهة النظر هذه تلك التصريحات الغريبة التي أطلقها وزير الحرب الإسرائيلي موشيه يعلون قبل فترة، والتي تقول بالحرف الواحد: "ليس من المتعة أن تقتل عدوك بيدك، فعندما يقتل عدوك نفسه بيده أو يد أخيه فإن المتعة أكبر وهذه سياستنا الجديدة، أن نُشكّل مليشيات للعدو فيكون القاتل والمقتول من الأعداء"!!
يمكن فهم هذه المقولة على غير وجه، مع الحذر هنا أن إسرائيل ليست قدرا مقدورا، تفعل ما تشاء وقتما تشاء، وعلى أي نحو تشاء، في فلسطين وفي المنطقة بأسرها، ولكن هذه المقولة تُحدث نوعا من الخوف العميق لأنها صدرت من "قاتل" محترف يستمتع بالقتل بيديه، وخاصة بعد العدوان على غزة، حيث خبر هذا القاتل نوعا جديدا من المقاتلين الأشداء، الذين غيروا كثيرا من المسلمات في قاموس الحرب وعقيدة القتال في إسرائيل.
موشيه يعلون من أشد رافضي قصة "السلام" برمتها وأحد أشد دعاة الاحتلال والتوسع حماسة، وسيرته "المهنية" حسب المصادر المتاحة تقول أنه "يستمتع" حين يقتل "عدوه" بيديه، فما الذي تغير، في طريقة تفكيره، حتى بدأ يبحث عن "متعة أكبر"؟
تقول سيرة يعلون، كقاتل محترف، إنه قاد عملية اغتيال أبي علي مصطفى، أمين عام الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين في رام الله، و شارك في عملية اغتيال أبي جهاد، وبفضله تم تصفية ثلثي قوائم الاغتيال الإسرائيلية، ووصف روبرت فسك عملية اغتيال أبي جهاد - خليل الوزير، قائلا إن ما لا يقل عن أربعة آلاف إسرائيلي جُندوا للعملية في تونس، ورأت زوجة الضحية العصابة التي اغتالت زوجها تفرغ أربعة مخازن ذخيرة في جسده بشكل "احتفالي"... "وبعد ذلك تقدم ضابط ملثم بلثام أسود وقام بإطلاق النار إلى رأسه كي يتأكد من أنه فارق الحياة ". ويخبرنا روبرت فيسك أن الذي أطلق الرصاصات الأخيرة على رأس الضحية عام 1988، كان "ضابط مخابرات اسمه موشي يعالون" وهو "أحد كبار الضباط الإسرائيليين الذين يقفون وراء سياسة الاغتيالات التي قررت إسرائيل تطبيقها في حربها ضد الفلسطينيين"، وهذه الجرائم وغيرها من التي تملأ سيرة حياة يعالون وصلت إلى حد خشية ملاحقته قضائياً حتى في الدول الأوروبية، فاضطر إلى إلغاء زيارة كانت مقررة له إلى لندن خشية التعرض لملاحقات قضائية بتهمة ارتكاب «جرائم حرب» في الفترة التي كان خلالها رئيس أركان الجيش بين 2002 و2005، وكان قد صرح بأنه يمتنع منذ سنوات من التوجه إلى بريطانيا لهذه الأسباب!
في ظل فهم هذا الرجل، الذي يقف على رأس جهاز الحرب في إسرائيل، و"التغير" الذي يُبديه في عملية "متعته" في القتل، لا نستبعد أنه وجّه أجهزته بالبدء في إطلاق شرارة اقتتال داخلي فلسطيني- فلسطيني في ظل هذه الظروف بالغة التعقيد التي تمر بها غزة، وعلى أعتاب تنظيم إحياء ذكرى ياسر عرفات في غزة، خاصة وأن هذه التفجيرات تسهم في زيادة عزلة قطاع غزة، وحرف المسار عن معاناة قرابة مليوني مواطن، وخلْط الأوراق في الساحة الفلسطينية، ولا يهم هنا من قام فعلا بتنفيذ التفجيرات، المهم من خطط لها، ومولها، وأشرف على تنفيذها عملياتيا، وثمة أكثر من طرف على الساحة الفلسطينية مستعد -للأسف- لتنفيذ هذه المخططات الصهيونية!