كتب سليمان جودة: هل كان الرئيسان،
السيسي والبشير، على حق، عندما طلبا من الإعلام في القاهرة، أن يكون أكثر إحساسا بالمسؤولية وهو يخاطب الناس؟!
أعتقد أنهما كانا على حق تماما، وأعتقد أيضا أن نداءهما إلى الإعلام، لم يصدر عن فراغ، وأنهما كانا يخاطبان الإعلام، معا، وفي ذهن كل منهما وقائع محددة، وممارسات معينة في الإعلام عموما، هي ليست منه في شيء!
ربما يكون الرئيس
البشير، قد بالغ قليلا، وهو يقول بأن الناس في أيامنا هذه، قد صاروا على دين إعلامهم، بعد أن كانوا في السابق، على دين ملوكهم، غير أن الرئيس السوداني لم يبعد عن الحقيقة، كثيرا. من جانبي كنت مؤمنا، ولا أزال، وسوف أظل بإذن الله، بأن الوجه الآخر للحرية المطلقة التي هي أساس أي إعلام حر، إنما هو الإحساس بالمسؤولية عند مخاطبة الرأي العام، وإذا كنت قد وصفت الحرية هنا، بأنها مطلقة، فلقد تعمدت ذلك وقصدته، وكنت من وراء هذا القصد أريد أن أقول، إنه لا يجوز أن يكون هناك أي قيد على ممارسة الإعلام لدوره في مجتمعه، إلا إحساسه الذاتي بالمسؤولية، إذا صح هنا أن نصف الإحساس بالمسؤولية، بأنه سوف يكون قيدا على الإعلام، أو نوعا من القيود.. ذلك أنه إذا صح أن نسميه هكذا، أو نفهمه على هذا النحو، فأهلا وسهلا، وإذا لم يصح، فلنفهمه كما نحب أن نفهمه، ولنطلق عليه ما نشاء من الأسماء، فليس هذا مهما، وإنما المهم أن يكون موجودا كإحساس لا غنى عنه، وأن يكون قرينا لكل أداء إعلامي، مرئيا كان، أو مكتوبا، أو مسموعا.
لقد قيل بحق، وفي سياق آخر طبعا، إنه ليس المهم أن تكون القطة سوداء أو بيضاء، وإنما المهم حقا، أن تكون قادرة على اصطياد الفئران.. وهذا بالضبط ما أقصده، وما يتعين علينا أن نفهمه إذا ما تكلمنا عن الإحساس بالمسؤولية في الأداء الإعلامي عموما، لأنك قد تفهمه على أنه قيد من نوع ما، وقد يفهمه غيرك، ممن يتصدون للعمل الإعلامي إجمالا، على أنه نوع من ترشيد مساحة الحرية المتاحة، وقد يفهمه ثالث، على أنه رقابة غير مباشرة، حتى ولو كانت رقابة ذاتية، لا خارجية، ولا مفروضة من جانب أي جهة.. وهكذا.. وهكذا.. إلى آخر ما يمكن أن يخطر على الذهن من افتراضات هنا، إذ الأهم مطلقا في النهاية، أن يكون مثل هذا الإحساس بالمسؤولية، حاضرا عند الإطلالة على الناس، من أي نافذة إعلامية، وأن يكون صاحبه متفهما إياه على نحو جيد، ومستوعبا له على الصورة التي يجب أن يستوعبه بها، وأن يكون مدركا بالتمام، أن حضور مثل هذا الإحساس، إنما هو لصالح الإعلام والمجتمع في آن واحد، وأنه بغير حضوره، سوف يظل المجتمع يعاني، وسوف يظل الإعلام يشعر أمام المتلقين بأنه ينقصه شيء!
مثلا.. في أثناء زيارة الرئيس البشير إلى القاهرة، الأسبوع الماضي، استقبله الرئيس السيسي، وخلفهما خريطة للقطر
المصري يبدو فيها مثلث حلايب وشلاتين الشهير، ضمن
الحدود الجنوبية الطبيعية للدولة المصرية.
إلى هنا.. لا مشكلة.. ولكن بدأت المشكلة عندما حلا لبعض الإعلاميين أن يقول في أثناء الزيارة، وبعدها، إن الرئيس السيسي قد استقبل الرئيس البشير، بخريطة خلفهما عليها حلايب وشلاتين منطقة مصرية، ولم يتوقف الأمر عند حد القول بذلك، وإنما تجاوزه إلى إبرازه والتركيز عليه!
هذا كلام غير موفق بالمرة في ظني، كما أنه كلام لا يتسم بأي قدر من الإحساس بالمسؤولية.. لماذا؟!
لأن هذه الخريطة هي نفسها التي يستقبل بها الرئيس المصري ضيوفه من الرؤساء جميعا، وليست خريطة جديدة جاء بها خصيصا لاستقبال ضيفه السوداني الرفيع، كما أن وجودها خلفهما، ليس جديدا بالمرة، ولو أن أحدا راجع كل استقبالات السيسي منذ تولى الحكم، فسوف يجد أنها موجودة فيها كلها.. ليس هذا فقط.. بل إنها كانت في مكانها هذا، أيام حسني مبارك، وأيام محمد مرسي، وأيام عدلي منصور ولم يفكر أحد وقتها، في أن يقول، إن هذه خريطة فيها كذا، أو أنها في مكانها هذا لتقول كيت.. لا.. لم يحدث!
ولم يكن مطلوبا من السيسي، عند استقبال الرئيس السوداني، أن يرفع الخريطة من مكانها، أو أن يغيرها بخريطة أخرى، لأن هذا لو كان قد حدث، لكان هو الذي سيلفت النظر، ويجذب الانتباه، وليس إبقاء الخريطة كما هي، منذ عقود من الزمان، وفي مكانها!
ثم حتى لو افترضنا أنها خريطة جديدة، وهو أمر غير صحيح تماما كما بينت، فهل كان من الحكمة، أو من العقل، أو من قبيل الإحساس بالمسؤولية في شيء، أن يُشار إليها على نحو ما أشير إليها به أثناء الزيارة؟!.. هل من اللياقة أن يقال هذا، في حضور الرئيس السوداني ضيفا على بلده الثاني؟!.. لقد كان البشير أكثر إحساسا بالمسؤولية من كثيرين من الإعلاميين، حين قال مسؤول في حكومته، قبل الزيارة بساعات، إن حلايب وشلاتين، ليست هي القضية التي يمكن أن يختلف حولها الشعبان المصري والسوداني، وإنه لا مشكلة بين البلدين، في هذه المسألة، وإنه حتى لو كانت هناك مشكلة، فالبلدان بما بينهما من تاريخ راسخ، وعلاقة حميمية، قادران على تجاوزها بسهولة.. وحين وصل البشير، إلى القاهرة، فإنه قد قصد عند انتهاء زيارته، أن يؤكد على هذا المعنى ذاته، وكان صريحا للغاية، حين قال إن ما اتفق هو والرئيس السيسي عليه، لن تهزه ريح، ولن يؤثر فيه إعلام غير مسؤول!
وسوف يتحلى الإعلام بالمسؤولية الواجبة، في اللحظة التي يدرك فيه إعلاميون كثيرون أنهم ليسوا «زعماء» على الشاشة، أو على الورق، أو عبر الأثير، وأنهم في مكانهم، لتقديم خدمة موضوعية للمتلقي، سواء كان قارئا، أو مشاهدا، أو مستمعا، وأن ما عدا ذلك، وهم كبير يعيش فيه بعضهم، ولن يلبثوا حتى يفيقوا على الحقيقة كما هي!
(الشرق الأوسط السعودية- الخميس 30 تشرين الأول/ أكتوبر 2014)