أضحى الأبيض المتوسط بحر الموت الأوروبي. قتل فيه هذا العام حتى الآن أكثر من ثلاثة آلاف لاجئ ومهاجر بينما كانوا يحاولون الهرب من الحرب والفقر في أفريقيا والشرق الأوسط واقتحام قلعة القارة الأوروبية إلى الشمال. وهذا العدد أكثر من أربعة أضعاف الذين قضوا نحبهم خلال عام 2013 ويشكل في نفس الوقت ثلاثة أرباع العدد الإجمالي لوفيات المهاجرين حول العالم. كيفما حسبناها هذه كارثة إنسانية على
حدود أوروبا: وهي نتيجة مباشرة لنظام يؤثر الحركة الحرة للأيدي العاملة الرخيصة داخل أوروبا على توفير ملاذ لضحايا الصراعات والفقر في بلدان الجوار.
هؤلاء الضحايا هم سوريون وفلسطينيون وإريتريون وليبيون، وكثير منهم أطفال، وقعوا في أيدي مهربين لينتهي بهم المطاف غرقى في قوارب صيد مكتظة أو بضاعة تباع لمسؤولين فاسدين في حرس السواحل على مسافة قصيرة من شواطئ لا تكاد تغيب عنها الشمس. يقدر عدد الذين فقدوا حياتهم وهم يحاولون الوصول إلى أوروبا منذ مطلع هذا القرن باثنين وعشرين ألفاً. وصل العدد السنوي للضحايا ذروته في الشهر الماضي عندما تعمد مهربون صدم وإغراق قارب كان يقل مهاجرين من مصر إلى مالطا بعد أن رفض من على متنه الانتقال إلى قارب أصغر. مات في الحادث خمسمائة إنسان.
أحد الضحايا كان فتى مصرياً عمره 14 عاماً كان يرغب في جني بعض المال حتى يسدد تكاليف علاج والده المريض. وبعض الضحايا كانوا ممن نجوا في الصيف الماضي من الهجوم الإسرائيلي على غزة واستخدموا المال الذي منح لهم حتى يبنوا منازل لهم وآثروا دفعه ليهربوا من الحصار إلى الأبد. تصور حجم الموارد التي كانت ستضخ في عملية التحقيق لو أن 500 أوروبي أبيض هم الذين أغرقوا عمداً في مياه المتوسط – بالتأكيد أكبر بكثير من الـ 298 الذي لقوا حتفهم في طائرة الركاب الماليزية التي أسقطت فوق أوكرانيا قبل ذلك بشهرين. ولكن حينما يتعلق الأمر بالضحايا العرب والأفارقة الذين قضوا نحبهم في حقول القتل داخل المياه الأوروبية فإن العالم الثري يهز كتفيه ويمضي في طريقه غير مبال. على الأقل قام بابا الفاتيكان الأرجنتيني فرانسيس مباشرة بعد انتخابه بزيارة إلى جزيرة لامبيدوسا الإيطالية القريبة من ساحل شمال أفريقيا ودعا إلى "صحوة ضمير" بشأن هذه الفضيحة.
هذا، في نهاية المطاف، هو الحد المرئي الوحيد الفاصل بين الشمال والجنوب، بين الثراء والفقر، ولعل توحشه يساعد على وضع قضية المهاجرين الذين يناضلون من أجل التسلل إلى العبارات في كاليه في السياق الصحيح. حسب المنظمة الدولية للمهاجرين قتل 3072 مهاجراً وهم يحاولون الوصول إلى أوروبا. ما من شك في أن هذا العدد أقل بكثير مما هو حاصل في الواقع، فمن ذا الذي يسجل عدد المهاجرين الذين ماتوا وهم يحاولون عبور الصحراء؟
لربما تجاوز عدد المهاجرين الذين قتلوا منذ عام 2000 حول العالم 120 ألف إنسان. في أوروبا، وصل عدد المهاجرين غير النظاميين الذين رصدتهم السلطات الإيطالية هذا العام 112 ألفاً، أي ثلاثة أضعف ما كان عليه العدد عام 2013. هذا ما جنته أوروبا على نفسها، فهو بلا شك نتيجة حتمية للحروب التي خاضتها أو سعرتها أوروبا في دول الجوار من ليبيا إلى الشام.
ولكن لا يختلف الوضع كثيراً على الحدود الأمريكية المكسيكية أو في الممرات البحرية بين إندونيسيا وأستراليا، وهما خطا المواجهة الآخران بين ما كان يسمى العالم الأول والعالم الثالث. خلال الخمسة عشر عاماً الماضية قتل ما لا يقل عن ستة آلاف مهاجر بينما كانوا يحاولون العبور إلى الولايات المتحدة الأمريكية بينما قتل 1500 أثناء رحلات الإبحار إلى أستراليا.
تتباهى الحكومة الأسترالية بأنها تمكنت من تقليص عدد الوفيات بين المهاجرين من خلال اعتقالهم أو التخلص منهم بتحويلهم إلى دول فقيرة أو إجبار قواربهم على العودة أدراجها بالقوة. هذا هو الوجه الكئيب لأصحاب الامتياز الكوني في القرن الحادي والعشرين مقابل تداعيات ما يقومون به من أعمال في باقي أرجاء العالم.
لو أخذنا بعين الاعتبار تفاقم عدم المساواة على المستوى العالمي لربما استغربنا أن ضغوط الهجرة ليس أشد مما هي عليه الآن. في القرن التاسع عشر كان متوسط الدخل في الدول الأغنى حوالي خمسة أضعاف الدخل في الدول الأفقر. إلا أن النسبة في السنوات الأولى من هذا القرن تجاوزت 18 مرة، وهي اليوم في الولايات المتحدة 25 ضعفاً مقارنة بالدول الأشد فقراً.
أصر أبطال العولمة الرأسمالية على أن قوة الأسواق العالمية ستغير كل ذلك. ولكن، إذا ما نحينا الصين جانباً - والتي حققت أسرع معدلات النمو وأسرع معدلات خفض الفقر، وإن كان ذلك بتكلفة باهظة للبيئة والمجتمع، وذلك من خلال تجاهل الإجماع النيوليبرالي في واشنطن – فقد استمر الفقر وعدم المساواة في التنامي ما بين الدول وفي داخل كل دولة على حدة.
وبينما فرض رفع القيود عن تعاليم "السوق الحرة" حول العالم تحت مسمى اتفاقيات "التجارة الحرة" و "الشراكة" والأنظمة التدميرية لكل من صندوق النقد الدولي والبنك الدولي ومنظمة التجارة العالمية، امتصت رؤوس الأموال والموارد من العالم النامي مما أدخل عشرات الملايين من الناس في فقر مدقع داخل المدن بفضل استيلاء المؤسسات الكبرى على الأراضي.
ولهذا السبب تضاعف عدد الناس الذين يعيشون على أقل من دولارين في اليوم في أفريقيا السوداء منذ عام 1981 تحت وطأة العولمة التي يقودها الأثرياء في العالم. الازدهار الذي تحقق لأفريقيا كان في استهلاك الموارد وليس في تحسين مستوى معيشة الناس فيها، لذلك ليس مستغرباً على الإطلاق آن تتزايد تقريباً ثلاثة أضعاف خلال نصف القرن الماضي أعداد المهاجرين من الجنوب حول العالم باتجاه الدول ذات الدخل العالي والمتوسط.
أضف إلى ذلك تأثير الحروب المتعددة التي اشتعلت خلال العقدين الماضيين، والتي رعتها وغذتها دول العالم الغذية في كل من العراق وأفغانستان واليمن وباكستان والصومال ومالي وليبيا، ولذلك ليس من الصعب فهم الضغوط المتولدة على حدود أوروبا وفي مياهها الإقليمية.
لقد ولدت هذه الحروب عشرات الآلاف من اللاجئين، الأغلبية العظمى منهم ينتهى المطاف بها في دول العالم النامي نفسها. فليبيا التي تحولت إلى دولة فاشلة بفضل تدخل الناتو باتت الآن محطة انطلاق للكثير من قوارب المهاجرين الذين يلقون حتفهم في الطريق إلى أوروبا.
أما لاجئو غزة فيهربون من الحروب التي لم تتوقف عن شنها عليهم إسرائيل منذ عقود، ويهربون من الاحتلال ومن الحصار. إنها إسرائيل التي تسلحها وتمولها الولايات المتحدة الأمريكية والاتحاد الأوروبي. أمام كل هذا تبدو هامشية تلك المستويات من الهجرة التي تسببها العوامل الطبيعية التي تؤدي إلى تغير المناخ في دول أفريقيا ومنطقة الساحل وفي الدول المهددة المجاورة لأوروبا.
والحقيقة هي أن النموذج الاقتصادي الذي فرض علينا فرضاً على مدى جيل كامل لم يأت بخير على معظم سكان العالم سواء في الشمال أو في الجنوب.
إذا ما أردنا أن نمنع الأزمات التي أوجدها هذا النموذج من أن تتحول إلى ما هو أسوأ، فثمة حاجة ماسة إلى القطيعة معه، إلى استراحة من الحروب التي يصنعها الغرب وإلى إجراءات راديكالية لتخفيض انبعاث الكربون على المستوى العالمي. من الطبيعي أن يسبب كل واحد من هذه الإجراءات ما يشبه الهزة الزلزالية، ولكن بدونها سيبقى نزف الدماء على حدودنا مستمراً بل وسيتنامى.
يمكن الرجوع إلى المقال في مصدره من خلال الرابط:
https://www.theguardian.com/commentisfree/2014/oct/09/europe-sea-death-migrants-war-inequality
(ذي غارديان- الخميس 9 تشرين الأول/ أكتوبر 2014)