"ميلكي" (لبني) هو اسم بودينغ مصنوع من الحليب شائع جداً في
إسرائيل، حلو المذاق مغطى بالقشطة البيضاء من أعلاه ويتكون من الأسفل من بودينغ شوكولاته بني اللون. بات ذلك أيضاً هو الاسم الذي يطلق على أسخن نقاش سياسي في إسرائيل، نشأ كنقاش حول ارتفاع تكاليف المعيشة وانتهى جدلاً محتدماً حول القواعد المؤسسة للصهيونية ويتناول فيما يتناوله قضايا تتعلق بالعدالة الاجتماعية وبالاحتلال وبالحرب على غزة.
بدأت جولة النقاش الحالية مطلع هذا الأسبوع حينما نشرت مجموعة من الإسرائيليين تعيش في برلين تعليقاً على "فيسبوك" تضمن صورة إيصال لما اشتروه ذلك الصباح من متجر البقالة المجاور لهم. وكان أبرز ما في الفاتورة سعر منتج يشبه بودينغ الحليب: 8ر. شيقل، أي ما يعادل 19ر0 يورو. هذا سعره في برلين بينما سعره في إسرائيل 4 شيقل. عصير البرتقال الذي كان ذات مرة رمزاً للقطاع الزراعي الإسرائيلي يكلف في برلين أقل من نصف سعره في تل أبيب. بشكل عام، الأسعار في إسرائيل أكثر من ضعف الأسعار في برلين.
سارع عدد من كبار
الاقتصاديين ورجال الأعمال في قطاع التجارة بالمفرق بالتوضيح أن المقارنة خاطئة ولا معنى لها، إلا أن إيصال برلين بالنسبة لكثير من الإسرائيليين كان مذكراً لهم بأن الحياة في إسرائيل لم تعد تطاق بسبب الغلاء. كما أن ذلك عزف على وتر في غاية الحساسية في المجتمع الإسرائيلي. فقبل ثلاثة أعوام، في صيف 2011، شهدت إسرائيل أكبر مظاهرات نظمت فيها على الإطلاق شارك فيها مئات الآلاف من الإسرائيليين الذين خرجوا إلى الشوارع يهتفون بشعارات مثل: "الشعب يريد عدالة اجتماعية" و "ها هي دولة الرعاية قادمة".
كانت تلك المظاهرات أشبه بالوحي بالنسبة للمجتمع المدني في إسرائيل، الذي كان تقليدياً يعتريه الضعف الشديد. فجأة أدرك المجتمع المدني ما لديه من قدرة على الاحتجاج، وعلى المطالبة بالتغيير، إلا أن النتائج الملموسة، كما حصل مع احتجاجات الأخوات في إسبانيا وحركة "احتلوا وول ستريت" التي جرت في نفس الوقت، كانت متواضعة جداً. إذ لم تتغير الحكومة، ولم تتعافى دولة الرعاية، وظلت الأسعار على ارتفاعها.
لعل الذين رفعوا التعليق على "فيسبوك" في برلين قصدوا بالذات استهداف هذا الإحساس بالإحباط، والذي ولده فشل احتجاجات عام 2011 وعززه قدوم ميزانية عام 2015 التي سيحصل فيها الجيش على زيادة قدرها 6 مليار شيقل، أي ما يعادل 7ر1 مليار دولار بينما لا ينال الخدمات الاجتماعية منها شيء يذكر. لقد كتبوا على صفحتهم في "فيسبوك" يقولون: "البقاء في إسرائيل يحرمك ويحرم أطفالك من الطعام ومن التعليم ومن المسكن … العيش في إسرائيل هو بمثابة أذى اقتصادي مستمر. نراكم في برلين".
يشكل هذا بالطبع تحدياً، عن سبق إصرار وترصد، للمجتمع الإسرائيلي.
الهجرة من إسرائيل ليست شيئاً جديداً، فلقد هاجر أكثر من مليون إسرائيلي إلى الولايات المتحدة الأمريكية وأوروبا وإلى غيرها خلال الأعوام الستين الماضية. إلا أن هؤلاء المهاجرين لم يتباهوا أبداً بقرارهم، فقد كانوا يعاملون بازدراء، إن لم يعتبروا خائنين للصهيونية. الهجرة إلى إسرائيل تسمى بالعبرية "عاليا" أي الصعود، كما لو أنك تسمو بنفسك وأنت تأتي إلى الأرض المقدسة. أما الهجرة من إسرائيل إلى خارجها فتسمى "يريدا"، أي الهبوط. ولذلك، قد يعتبر التفاخر بالهجرة إلى برلين، وما يعنيه ذلك بالنسبة للتاريخ اليهودي والتاريخ الصهيوني، نوعاً من انتهاك المحرمات.
يقدر عدد الإسرائيليين الذين يعيشون في برلين بأربعين ألفاً جاء معظمهم خلال العقد الأخير. وبات ذلك نوعاً من الصرخة أو الموضة بين الشباب الإسرائيليين من سكان المدن. بالطبع، يدرك ماتي شيموليف، وهو كاتب وشاعر انتقل إلى برلين قبل عام تقريباً، المغزى التاريخي من العيش في برلين، إلا أنه يزعم أنه لم يفعل ذلك انطلاقاً من الرغبة في التحدي، ويقول: "توجد فرص أكثر في برلين، وهي أرخص مدينة في وسط أوروبا، وباتت الوجهة المفضلة للمهاجرين من كافة أنحاء العالم، وليس فقط من إسرائيل." ويضيف شارحاً بأن الحصول على تأشيرة إقامة في ألمانيا أمر يسير نسبياً.
أما بوعاز عراد، وهو صحفي إسرائيلي يعيش الآن في برلين، فكتب مقالاً هذا الأسبوع في صحيفة هآرتس عنوانه "لماذا غادرنا إلى برلين (والأمر لا يتعلق بالبودينغ اللبني)". يعدد في مقاله من محاسن برلين: نظام النقل العام الذي يعمل بكفاءة، والشبكة الاجتماعية القوية، والتعليم المجاني، والسكن المقدور على تكاليفه، وأجور البيوت المضبوطة بالقانون، وظروف العمل المحترمة، ولا يقل عن ذلك أهمية أن لا أحد يدس أنفه في شؤون حياتك الخاصة، ويطلب منك تفسيراً لماذا زوجتك ليست يهودية أو لماذا ليس لديك زوجة".
إلا أن ذلك جزء يسير من الحكاية. فحسبما يقول شيموليف، كثير من الإسرائيليين الذين جاءوا إلى برلين خلال العقد الأخير كانوا سابقاً من النشطاء السياسيين في إسرائيل، ويقول إنهم في برلين يجدون أنفسهم داخل إطار من الأخوة يجمعهم بالمهاجرين القادمين من كافة أصقاع الأرض. في المظاهرات التي خرجت احتجاجاً على الحرب الأخيرة على غزة، سار الإسرائيليون جنباً إلى جنب مع المتظاهرين الفلسطينيين والعراقيين والأكراد. يضيف شيموليف: "لقد غدت برلين مدينة للجوء".
بالرغم من أن الإسرائيليين المقيمين في برلين لم ينتقلوا إليها رغبة في التحدي، إلا أن شيموليف يدرك أن هذه الهجرة تعتبر في إسرائيل "كناية عن الوجود اليهودي خارج إسرائيل". بحسب الصهيونية لا يتسنى للحياة اليهودية أن تحقق الغرض منها إلا في إسرائيل. إن بإمكان الإسرائيليين التعايش مع حقيقة أن ملايين اليهود مازالوا يعيشون في بريطانيا أو فرنسا أو الولايات المتحدة الأمريكية، كما يقول شيموليف، إلا أن الأمر يصعب عليهم حينما يتعلق برؤية من ولدوا في إسرائيل يهاجرون بمحض إرادتهم وبفخر، وخاصة عندما تكون الوجهة برلين.
فقط في العام الماضي، شن وزير المالية يائير لابيد، الذي نجا والده من المحرقة، هجوماً لاذعاً على أولئك الإسرائيليين الذين هم "على استعداد لأن يلقوا في القمامة بالبلد الوحيد الذي يملكه اليهود لمجرد أن الحياة في برلين باتت أسهل." ردود الفعل هذه المرة لم تكن أقل قسوة، فقد وصم المهاجرون الإسرائيليون إلى برلين بأنهم كاذبون، وضعاف، وأعداء للصهيونية وحتى خونة. إلا أن شيئاً من ذلك لم ينل من أصحاب صفحة "فيسبوك" الذين أثاروا هذا الجدل، ولم يشعروا بالعار، بل وجهوا نداء إلى 300 ألف إسرائيلي مطالبين إياهم بـ "الصعود" ويقصدون به الهجرة إلى برلين، قائلين إننا فقط إذا غادرنا إسرائيل فستدرك الحكومة هناك عمق الأزمة. بمعنى آخر، لقد تحولت الهجرة إلى أداة سياسية.
صفحة "فيسبوك" هذه ليست مجرد حكاية، فخلال الأسابيع الأخيرة بعد الحرب على غزة علت الأصوات الداعية إلى الهجرة خارج إسرائيل على اعتبار أن ذلك هو الخيار السياسي الوحيد المتبقي أمام الإسرائيليين "الطبيعيين"، وهذه الأصوات تسمع كل حين مراراً وتكراراً. ولعل من أبرزها كان مقالاً للصحفي روجيل آلبار نشره في صحيفة هآرتس تحت عنوان: "يجب علي أن أغادر هذا البلد". فتيار اليمين الديني المهدوي يزداد قوة، ولم يعد ثمة أمل في كسب المعركة لإنهاء الاحتلال، والأن، بعد غزة، أصبح البقاء في إسرائيل خطراً. كتب ألبار يقول: "ليس بإمكانك أن تعيش حياة كريمة هنا. بإمكانك أن تموت هنا، بإمكانك أن تجد ملجأً، ويجب عليك أن تغادر."
ما يلاحظه شيموليف أن ثمة نمطاً واضحاً، من أهم معالمه فشل احتجاجات عام 2011، وإعادة انتخاب بنيامين نتنياهو رئيساً للوزراء، ثم الحرب الأخيرة على غزة والجدل الدائر حالياً حول أسعار بودينغ الحليب والهجرة إلى برلين، ويقول: "هناك شعور بأن إسرائيل في حالة انهيار". ويؤكد، بينما يشير إلى بعض الكتب الإسرائيلية التي صدرت مؤخراً حول قرب نهاية العالم، بأن "المستقبل يبدو سوداوياً".
من المبكر الجزم ما إذا كانت الهجرة من إسرائيل ستصبح حركة ضخمة، وما إذا كانت ستشكل تحدياً حقيقياً للأحزاب الحاكمة. معظم أولئك المهاجرين الجدد الذين يفاخرون بهجرتهم ينتسبون إلى التيارات اليسارية، وقد يسر ذلك الحكومة الحالية ويبهجها. إلا أن هؤلاء يمثلون النخبة المستقبلية في إسرائيل، ولن يسر أي حكومة رؤيتهم يقدمون خدماتهم لدول أخرى. من الواضح أن حكاية "اللبني" بأسرها، وبكل ما لها من تداعيات، إنما هي مؤشر آخر على اليأس المتنامي والزاحف نحو قطاعات واسعة من المجتمع الإسرائيلي.
* ميرون رابوبورت صحفي وكاتب إسرائيلي، حائز على جائزة نابولي الدولية للصحافة على تحقيق أجراه حول سرقة أشجار الزيتون من الفلسطينيين. كان يشغل منصب رئيس قسم الأخبار في صحيفة هآرتس، وهو الآن صحفي مستقل.
(ميدل إيست آي)
رابط المقال الأصلي من
هنا