بعد نقاش قصير في السياسة والإعلام طلب مني شاب
مصري يعمل بالبناية التي كنت أسكنها في
السعودية أثناء أدائي فريضة الحج أن أصعد معه فوق السطوح ليريني شيئا ربما أفهم من خلاله الوضع الذي يحياه كثير من المصريين في الخارج مضطرين بسبب ضيق بلادهم عليهم وعجزها عن استيعابهم.
بمجرد الوصول إلى سطح البناية أردت النزول على الفور، فدرجة الحرارة تتجاوز الـ47 مئوية وضوء الشمس كفيل بإجبارك على إغماض عينيك طوال الوقت، لكن العامل المصري أمسك بيدي وأشار إلى غرفة على أطراف السطوح ليس لها باب، فقط ستارة متهالكة تحجب الرؤية عن نصف محتويات الغرفة بينما يمكنك أن ترى ما في الداخل بوضوح من النصف الذي عجزت الستارة عن ستره.
اقتربنا من الغرفة وقال لي العامل إن هذا الممدد على الأرض داخلها شاب مصري اسمه محمد من إحدى محافظات الدلتا، جاء إلى المملكة قبل 4 شهور ليعمل مزارعا مقابل 700 ريال شهريا، ولأن الإقامة في سكن آدمي تتوافر فيه أدنى مقومات الحياة تتطلب دفع نصف هذا الراتب على الأقل، استأجر هذه الغرفة على هذا الوضع مقابل 100 ريال ليقيم فيها دون تكييف أو ثلاجة أو حتى باب يستره في درجة حرارة لا يحتملها بشر.
عرض عليّ العامل أن أدخل إلى الشاب ليحكي أكثر عن تجربته لكنني لسبب لا أعلمه رفضت ذلك بشكل قاطع واكتفيت بما سمعته، ربما هو الحياء من مواجهته والإحساس بالمسؤولية المباشرة عن معاناته، أو الخوف من سماع مزيد من التفاصيل المأساوية التي تكشفنا أمام أنفسنا وتفضح عجزنا عن المحافظة على ثورة قامت أصلا حتى لا يحيا هؤلاء على السطوح في بلاد غريبة.
***
ربما نزل محمد ميدان التحرير وربما لا، ربما كان مؤيدا للثورة وربما تعاطف مع مبارك، ربما أدلى بصوته في انتخابات الرئاسة عام 2012 وترقب النتيجة وربما كان يراها بلا قيمة، كل هذا لا يهم، المهم أن محمد الذي انتظر 3 سنوات بعد الثورة على أمل أن تستقر الأحوال ويتمكن من العيش في بلاده بكرامة اضطر لقبول عمل شاق بمقابل مادي أكثر من ضعيف وفي ظروف معيشة لا يتحملها إنسان، والأكيد أن اللحظة التي قرر فيها القبول بهذا الوضع هي اللحظة التي تأكد فيها أنه لا مكان له في هذا البلد ولا أمل له فيها.
لم أجد نفسي وأنا أنظر إلى هذا النائم في غرفة أقرب إلى الفرن منها إلى السكن قادرًا على اتهام عبد الفتاح السيسي ونظامه بأي شيء أو تحميله مسؤولية مأساة محمد، فهو في النهاية امتداد لنظام لا يرى في المواطن إلا كفّين يحملاه إلى العرش ويصفقان لانتصاراته الوهمية ويضربان خصومه إن فكروا في مساءلته أو منافسته.
الثورة وحدها والمحسوبون عليها أولى باللوم والتأنيب على الحياة التي يعيشها محمد وملايين مثله، أو بالأحرى الحياة التي لا يعيشوها.
كانت الثورة قوية عندما كانت المطالب الاقتصادية والاجتماعية تتصدر أولوياتها، دعمها كثير من المصريين على أمل أن تتحسن أحوالهم ويجدوا منها اهتماما افتقدوه على مدار عقود، لكن المحسوبين على الثورة وقعوا سريعا في فخ المحاصصة السياسية والحديث عن الانتخابات والأحزاب ونظام الحكم دون أن يقترن ذلك بالحديث عن خططهم لتحسين أوضاع الناس أو لتحقيق العدالة الاجتماعية وإنقاذ الاقتصاد.
انفضت الثورة عن الناس فانفضوا عنها وتركوها وحدها في مواجهة الدولة القديمة ورجالها وأموالها، فقدت الثورة ظهيرها وسندها بتخليها عن الناس وفقد الناس فرصة حقيقية للحياة بتخليهم عن الثورة.
ستعود الثورة قوية عندما يقتنع محمد أنها تناضل لأجله، وعندما يتأكد أن التمسك بها ومناصرتها فرصته الأخيرة، وستقوى الثورة عندما يلتحق محمد بركابها، وستنتصر الثورة عندما يعود محمد إلى مصر.