بعد نجاح الثورة
التونسية في الإطاحة بنظام الاستبداد ومنذ حصولها على الاعتراف القانوني (آذار2011)، مارست حركة
النهضة قدرا كبيرا من البراغماتية السياسية وحاولت التحرر من ضغط الايديولوجيا والخروج من منطق الجماعة المغلقة الى صورة الحزب السياسي المنفتح.
ورغم حداثة تجربتها السياسية العلنية وظهورها كحزب سياسي ينافس على الوصول للسلطة في إطار اللعبة الديمقراطية فقد بدت الحركة أكثر وعيا من خصومها بضرورة إنجاح المسار الديمقراطي الناشئ وهو ما يقتضي تقديم تنازلات والتعامل بمرونة شديدة مع باقي مكونات المشهد السياسي ..
وإذا كان الحزب السياسي في صورته الحديثة هو" تنظيم دائم يضم مجموعة من الأفراد يعملون معا من أجل ممارسة
السلطة ، سواء في ذلك العمل على تولي السلطة أو الاحتفاظ بها " (ريمون آرون) ويؤدي جملة من الوظائف لعل أبرزها التأثير في المجتمع من خلال محاولة توجيه الرأي العام من جهة وتكوين القيادات النخب والقيادات السياسية التي بإمكانها إدارة الشأن العام والغاية هي الوصول للسلطة فإنه يمكن القول من هذا المنطلق أن حركة النهضة مثلت حزبا سياسيا مستجيبا للشروط الضرورية لنجاح الأحزاب في ظل وضع ديمقراطي ممكن ،غير أن ما تميز به هذا الحزب هو جملة من الخصائص التي اتضحت من خلال ممارساته السياسية سواء خارج الحكم أو من خلاله.
فقبل انتخابات 23 أكتوبر/تشرين أول 2011 انضمت حركة النهضة الى "الهيئة العليا لتحقيق أهداف الثورة والإصلاح السياسي والانتقال الديمقراطي" ورغم تمثيليتها المحدودة والتي لا تتناسب واقعا مع حجم انتشارها الجماهيري، قبلت أن تكون مكونا داخل الهيئة دون إبداء رغبة في الهيمنة أو محاولة فرض شروط تهدف الى تحقيق حساباتها السياسية أو تتوافق مع توجهاتها الإيديولوجية .واثر وصولها للسلطة حرصت الحركة على أن تكون شريكا في السلطة مع قوى سياسية أخرى تمثلت في تحالفها مع حزبي المؤتمر من اجل الجمهورية والتكتل من اجل العمل والحريات وهو ما منح الحركة صورة الحزب التوافقي رغم ما صاحب هذه التجربة الائتلافية من مصاعب وتعقيدات وخلافات بسبب توزيع المسؤوليات والتنافس الحزبي الذي بدا مؤثرا على أداء حكومة الترويكا خاصة في فترة رئاسة حمادي الجبالي للحكومة.
لقد حاولت النهضة المحافظة على وتيرة ثابتة لتطور الانتقال الديمقراطي وربما ظهرت أكثر حرصا من خصومها على نجاح التجربة الديمقراطية الناشئة وهو أمر تجلى بداية في تخليها عن الوزارات السيادية لصالح شخصيات غير مسيسة (أثناء رئاسة علي العريض للحكومة) وصولا الى تنازلها عن الحكم برمته اثر الحوار الوطني الذي أشرفت الرباعية (المكونة من اتحاد الشغل واتحاد الأعراف ورابطة حقوق الإنسان وعمادة المحامين) على إدارته وتسيير مراحله المختلفة وهو ما مثل لحظة فارقة في قدرة الحركة على إدارة الأزمة وتخفيف الاحتقان السياسي الذي نشأ اثر اغتيال النائب محمد البراهمي (25جويلية/يوليو2013) خاصة بعد اعتصام بعض قوى المعارضة اليسارية والدستورية بساحة باردو منادية بالإطاحة بحكم الترويكا وربما كان بعض زعماء المعارضة حينها يطمحون الى انقلاب على الطريقة المصرية وإبعاد الإسلاميين جملة عن المشهد السياسي (مثلما كشف عن ذلك عصام الشابي القيادي في الحزب الجمهوري).
أما من الناحية الإيديولوجية فقد تخلت النهضة عن فكرة فرض تصوراتها الفكرية أو الدخول في مصادمة حادة ضد باقي فرقاء المشهد السياسي وهو ما يمكن ملاحظته أثناء صياغة الدستور حيث أعلن راشد الغنوشي بوضوح عن رفضه تقسيم المجتمع على خلفية الانتصار لتضمين مبدآ حاكمية الشريعة الإسلامية في الدستور ودعمه لفكرة عقد اجتماعي يتوافق حوله الجميع يضمن الحقوق والحريات بعيدا عن منطق التجاذب الإيديولوجي والمغالبة الحزبية التي تنتصر لفكر الحركة على حساب الحفاظ على مبدأ التعايش السياسي في ظل ديمقراطية ناشئة لازالت تتلمس خطواتها الأولى نحو التحقق واقعيا. لقد تمكنت حركة النهضة بخطواتها السياسية المحسوبة جيدا ورغبتها الواضحة في الحفاظ على حد أدنى من المشترك السياسي مع باقي القوى الحزبية بعيدا عن ضيق الايديولوجيا من التسريع في وتيرة الانتقال الديمقراطي عبر إقرار دستور جديد وتشكيل الهيئة العليا المستقلة للانتخابات وصولا الى تحديد مواعيد نهائية لاختيار نواب الشعب ومن ثم اختيار رئيس الجمهورية.
وهنا تتبدى الخيارات السياسية الناجحة للحركة والتي تدل على مدى وعي قياداتها بضرورة الابتعاد عن محاولات الاستئثار بالمشهد السياسي وتقزيم باقي القوى السياسية وهو أمر له أثره في الإعلان عن عدم ترشيح شخصية قيادية في الحركة لمنصب رئاسة الجمهورية والاكتفاء بالدعوة الى اختيار رئيس توافقي إن أمكن وهو ما منحها فسحة التحرك في الساحة السياسية بوصفها الطرف الذي يخطب وده جميع المرشحين دون الوقوع في حبائل الصراع الحاد الذي قد يؤدي الى أزمات سياسية قد تعصف بالبلاد ، أما الانتخابات النيابية فقد ضمت قوائم الحركة عددا مهما من الشخصيات المستقلة ذات الخلفيات الاقتصادية والعلمية والثقافية وهو ما مثل إثراء لرصيد الحركة من حيث قدرتها على التأثير وصناعة الرأي العام خاصة وأن المؤشرات الأولية تمنحها الأسبقية على غيرها من الأحزاب للفوز بعدد من المقاعد النيابية أكثر من الآخرين.
إن كل هذه المميزات التي تظهر من خلال طبيعة الممارسة السياسية لحركة النهضة لا تنفي وجود أخطاء عديدة سواء في لاواقعية بعض الوعود التي قدمتها أثناء الحملة الدعائية في انتخابات 23 أكتوبر 2011 وفي الأداء الحكومي أثناء مشاركتها في السلطة أو من حيث تذبذب مواقف بعض قيادتها في مسائل سياسية مؤثرة (التعامل مع فلول النظام السابق خاصة حيث سعت الحركة في البداية الى إقصائهم لتنتهي الى القبول بهم مكونا أساسيا في المشهد الحزبي)، غير انه يمكن القول إجمالا أن أداء حركة النهضة السياسي في منحنياته المختلفة كان مقبولا ومتفوقا على خصومها من الأحزاب الأخرى ممن لازال بعضها يراوح مكانه في الأداء من حيث عجزه على الاستقطاب أو التأثير أو صناعة القرار في مشهد سياسي تونسي متغير.