هناك الكثير من اللغط الذي بدأ ينتشر في الآونة الأخيرة حول طبيعة الموقف التركي من الحملة العسكرية التي انطلقت مؤخرا بقيادة الولايات المتّحدة والتحالف الدولي. وبطبيعة الحال، فهناك من ينطلق في موقفه من عداء أيديولوجي وسياسي مع أنقرة ولا يحتاج لأن يقرا او يسمع او يفهم ماذا يدور في الداخل التركي حول الموضوع، وما هي حقيقة الموقف الرسمي والمعطيات التي تبني عليها الحكومة قرارها وما هي خيارات انقرة وحدود تحرّكها، فهمّه الأساسي كيف يمكن ان نثبت ان "
داعش" هي صنيعة
تركيا في النهاية ولذلك فهي لا تريد أن تحاربها!
وهناك من هو أذكى من أن يتّبع النمط الأول وان كان يشترك مع من يمثّلون هذا الخط في العداء الأيديولوجي والسياسي لانقرة، لكنّه يلجئ الى تفسيرات قد تتمكن من اختراق شرائح ليست على اطلاع كافي او دراية بما يجري، كأن يتم القول انّ هناك مصلحة تركية في بقاء "داعش" كي تخلّصهم من الأكراد! ومن المفارقة انّ مثل هذه التوجهات ليست حكرا على الشرق وانما يوجد نماذج متعددة منها في الغرب أيضا.
وبغض النظر عن ذلك، فالحقيقة انّ الحسابات التركيّة قبل "داعش" وبعد "داعش" لم تتغيّر كثيرا لناحية العناصر التي تحكم القرار التركي وتحدد طبيعة تدخّلها في الموضوع ، مع فارق انّ المخاطر المتأتيّة بالنسبة الى تركيا من الملفين السوري والعراق بدأت تتّسع وتتزايد، ما يعني ضرورة التحرك بشكل أسرع.
أنقرة ترى انّ التحرّك بشكل عشوائي ضد "داعش" ومن دون مراعاة ضرورة مواجهة العوامل التي أدت الى نشوئها في الأصل والمتمثلة بسياسة النظام السوري والحكومة العراقية سيؤدي الى الفشل في النهاية، ناهيك عن تضارب المصالح والغايات بين البلدان المشاركة في هذا التحالف. فظاهر التحالف محاربة "داعش" وباطنه أشياء أخرى.
العمل العسكري هو أمر ضروري لكنه لا يحل المشكلة، أضف الى ذلك انّ في تركيا حوالي 1.5 مليون لاجئ سوري وعراقين وهؤلاء يجب اخذهم بعين الاعتبار عندما تقرر أنقرة الدخول في عملية عسكرية بالإضافة الى طول الحدود مع
سوريا والعراق الأمر الذي يجعلها الأكثر عرضة للخطر و لإمكانية حصول عمليات انتقامية عير الحدود، بالإضافة بطبيعة الحال الى العنصر الدائم الحضور في المعادلة وهو الأكراد.
قبل فترة قصيرة ، بدأت الأسلحة الغربية والايرانية بالتدفق الى الأكراد من كل حدب وصوب ، ومن شأن ذلك أن يعقّد الخريطة الامنية عبر الحدود من جهة، وأن ينقل الصراع مرة اخرى الى الداخل التركي من جهة أخرى. فهناك جهات غير راضية عن مسار العملية السلمية الداخلية، ولذلك فقد يستفيد الجناح المعارض في حزب العمال الكردستاني من تدفق الاسلحة في تعزيز موقفه في المفاوضات او ربما استئناف اعماله القتالية داخل تركيا مما يؤدي الى اجهاض الجهود التي بذلت في العملية السلمية حتى اليوم.
أضف الى ذلك أنّ من شان تدفق الأسلحة ان يقوي من النزعة الانفصالية لدى الأكراد سواء في العراق أو في سوريا، خاصة انّ ميليشيات (PYD) الكردية التي يقودها صالح مسلّم كانت قد بدأت منذ اندلاع الثورة السورية العمل على هذا الموضوع، وهي لا تعدم الوسيلة فقد تعاملت مع النظام السوري وتواصلت مع الايرانيين ومن ثم مع الغربيين في محاولة لتسويق نفسها على انّها الدواء الشافي لمعالجة "داعش" وانّ قيامها بهذا الدور يتطلب بالضرورة الاعتراف بها ومدها بالاسلحة ومن ثم الموافقة على تطلعاتها المستقبلية، علما انّ عناصرها قاتلوا ايضا الثوار السوريين وحتى الأكراد المناصرين للثورة.
هذه الميليشيا تشكك اليوم في نيّة تركيا بسبب عدم تدخلها في عين العرب لرد "داعش" في حين أنّها كانت طوال السنوات الماضية وحتى الأشهر الاخيرة تهدد تركيا في حال دخول اي جندي من جنودها الى داخل سوريا بأنها سترفع السلاح في وجهه.
الأهم من كل ذلك أن أنقرة لاحظت ان اسقاط الأسد ليس أولويّة بالنسبة للتحالف، وهذا هو لب المشكلة، كما انه يعكس عدم جديّة لدى الغرب في محاربة الارهاب، على اعتبار ان ما سيجري سيؤدي الى ارهاب اكبر والى عودة النظام السوري وهذا لا يمكن قبوله في أي حال من الأحوال.
ما حاولت انقرة ان تفعله في الآونة الاخيرة هو اقناع واشنطن والتحالف بضرورة اخذ هذه المعطيات بعين الاعتبار اذا ارادوها ان تساعد بشكل اكبر فعالية وان تكون قادرة على القيام بمسؤولياتها بشكل افضل، خاصة ان اي تدخل عسكري من قبل انقرة سيحتاج ايضا الى غطاء والى قرارات دولية والى مناطق عازلة ومنطقة حظر جوي، فالتدخل في سوريا من دون منطقة حظر دوي يعني الدخول في المصيدة. وتحاول أنقرة الان ان ترسل رسائل مباشرة الى واشنطن والتحالف على انها جادة في كل ما تقوله، وانها ستقوم بالخطوة الاولى وهو تجهيز كل المتطلبات القانونية والسياسية لتدخل أنقرة على ان يواكب ذلك استجابة للمتطلبات من الجانب الامريكي والدولي وهو ما لم يحصل حتى الآن.