رفض أساتذة شريعة وباحثون إسلاميون في أحاديثهم وتصريحاتهم لـ "عربي 21" اعتبار عصرنا الذي نعيشه زمن
الملاحم الكبرى، وانتقدوا بشدة مسالك من يتعاطون مع
الأحداث السياسية الجارية باعتبارها تجليات لنبوءات دينية جازمة، واعتبروا أن
السنن الجارية تسري على المسلمين كما تسري على غيرهم باعتبارها قوانين عامة ثابتة ومطردة، وهي لا تحابي المسلمين ولا تجاملهم كونهم مسلمين.
يأتي ذلك في وقت ترتفع فيه أصوات إسلامية ترى أن ما يجري من أحداث في بلاد الشام، هو إرهاصات ومقدمات بين يدي
النبوءات التي ورد ذكرها في الأحاديث النبوية التي تتحدث عن أخبار مستقبلية، تأتي في مقدمتها أحاديث الملاحم، وعودة الخلافة الراشدة، التي ستنتقل معها الأمة الإسلامية إلى مرحلة جديدة، معتبرين الثورة السورية بوابة العبور إليها.
في هذا السياق رأى الشيخ عمر محمود المعروف بأبي قتادة – أحد كبار منظري السلفية الجهادية، أثناء بحثه لأسباب ودوافع ومآلات الثورات العربية في كتابه "المقاربة لنازلة العصر قدرا وشرعا" – "أن الوصف الحقيقي لهذا الحراك أنه مقدمات حصول الوعود الإلهية بالنصر والتمكين".
واستحضر أبو قتادة ما لبلاد الشام من أهمية ومكانة في الأدلة الشرعية، ثم انتهى إلى القول: "والأمر الآن هو سقوط طاغوت سوريا، وهو أمر سيغير صورة العالم الإسلامي في منطقة بلاد الشام، أرض الوعود والحشر والنبوءات في معركة سيطول أمدها، لأن الأمر فيها ليس أمر الطاغوت وجنده فقط، بل سيمتد إلى الزنادقة الروافض في العراق ولبنان وإيران..".
لحزب التحرير الإسلامي موقف جد متفائل من الثورة السورية، حيث رأى فيها طريقا محتملا لإقامة دولة الخلافة، فقد جاء في كتيب أصدره الحزب – ولاية سوريا، عنوانه: "القول الفصل في أحاديث الشام (دار عقر الإسلام)، ما يكشف عن تطلع الحزب لإقامة الخلافة بعد إسقاط بشار الأسد ونظامه".
يقول الحزب في إصداره مخاطبا فصائل الثورة السورية: "إن الله قد فضَّل الشام وجعلها فسطاط الإسلام، فإن صحَّ منكم العزم، وخلصت منكم النية، واستقامت طريقكم على نهج رسولكم صلى الله عليه وسلم، فإننا سنشهد بإذنه تعالى عما قريب أحد أبطالكم يرفع لواء دولة الخلافة الراشدة الموعودة فوق دار أمير المؤمنين بحول الله وقوته".
وبحسب الداعية المصري محمد حسان "فإن ما نراه بأعيننا في سوريا، ونستمع إليه من وكالات الأنباء، وعبر الفضائيات، ونشرات الأخبار قد تحدث عنه النبي المختار صلى الله عليه وسلم الذي لا ينطق عن الهوى".
تلك التصورات والرؤى تصدر عن تأويلات لنصوص دينية، تسقط ما ورد في النصوص على الواقع بحسب قراءتها وفهمها، فهل تلك التأويلات محل إجماع واتفاق عند جماهير العلماء والباحثين الشرعيين، أم أن ثمة قراءات أخرى تخالف تلك القراءة، وترى فيها انحرافا منهجيا، وتخبطا في فهم الواقع وتحليل أحداثه ووقائعه؟
المنهجية القويمة في فهم أحاديث النبوءات المستقبلية
نظرا لأن أصحاب تلك التصورات والرؤى، يستندون في تأويلاتهم إلى نصوص نبوية، تحمل في ثناياها مبشرات ونبوءات مستقبلية، فإن المقام يقتضي تحديد المنهجية القويمة في فهم تلك الأحاديث، وكيف يمكن إسقاطها وتنزيلها على واقعة معينة، أو الحكم بأن الأحداث التي تجري تتطابق تماما مع ما ورد في تلك الأحاديث؟.
بحسب الدكتور أسامة نمر أستاذ الحديث النبوي وعلومه في جامعة الزرقاء الأردنية، فإن إسقاط الأحاديث وإنزالها على وقائع معينة ومحددة أمر محفوف بمخاطر كبيرة، ولا يمكن الجزم بذلك بتاتا، ما لم يكن الأمر يتحدث بنفسه عن نفسه، مستذكرا أن ثمة معارك وقعت في التاريخ الإسلامي مع "الروم"، فهل يمكن القول بأن تلك المعارك كانت تحقيقا للأحاديث المخبرة بوقوع ذلك في آخر الزمان؟
واعتبر الدكتور نمر أن من أهم معالم المنهجية القويمة عدم الجزم بإنزال حديث نبوي يتحدث عن نبوءات مستقبلية، على واقعة أو حادثة بعينها، لأن الخطأ في ذلك يفضي إلى نتائج مأوساوية وكارثية، وكذلك عدم الاستناد إلى أحاديث المبشرات في تحديد حركة المسلمين العملية، بل يرتكز في ذلك إلى التماس المشروعية من الأدلة الشرعية التكليفية لتبين مدى مشروعية معركة ما، ومشروعية أهدافها.
وفي جوابه عن سؤال "عربي 21" عما إذا كانت الأحداث الجارية في سوريا عبر التحالف الذي تقوده الولايات المتحدة الأمريكية على تنظيم الدولة الإسلامية تحقيقا لنبوءات وردت في أحاديث نبوية، رفض الدكتور نمر ذلك التصور، ولم يرتض توصيف من يقول بأن الحرب المعلنة هي حرب صليبية على الإسلام، بل هي حرب على جماعات معروفة، مع إقراره بوجود أجندات سياسية لأمريكا وغيرها في المنطقة.
مقاربة أصولية لأحاديث الفتن والملاحم
من جانبه قدم الباحث الإسلامي محمد إدريس مقاربة أصولية (علم أصول الفقه) توضح كيفية النظر في أحاديث
الفتن، مبينا أن الأصوليين قسموا الخطاب الشرعي إلى: تكليفي وغير تكليفي، أما التكليفي فينقسم إلى خبري وإنشائي، والإنشائي كالأوامر والنواهي المعروفة، أما غير التكليفي فهو ما جعله الله تعالى علامة على النبوة، ويندرج فيه جميع ما ورد عن النبي من أحاديث أطلق عليها أحاديث الفتن، خاصة ما كان منها متعلقا بآخر الزمان.
ونبه إدريس في حديثه لـ"عربي 21" إلى خلط يقع فيه بعض المسلمين، بسبب عدم تفريقهم بين أنواع الخطاب الشرعي بقسميه، فأحاديث الفتن ليست داخلة ضمن التكليفات الشرعية، وإنما هي عند وقوعها تكون علامة على صحة النبوة المحمدية، وعلى هذا التقسيم يبقى المسلم مطالبا بأحكام الشريعة الثابتة المعروفة، وظهور الوقائع المستقبلية وفق أحاديث الفتن لا يعني بأي فهم كان ترك الشريعة، لأن تركها والبناء الفكري والعملي بالاستناد إلى تلك الأحاديث يعني ترك ما كلف به وهو الشريعة بعينها. رافضا مسالك أولئك الذين ينزلون أحاديث الفتن على واقعنا المعاصر واعتبارهم ما يجري متماهيا تماما مع تلك النبوءات.
وأكد الباحث الإسلامي محمد إدريس على ضرورة التزام الشريعة الظاهرة في كل تكاليفها (الأوامر والنواهي)، لأن الشريعة التكليفية هي المنهج الإلهي للمسلم سواء كان في حالة الهدوء والسلام أم في حالة المحن والفتن والاضطرابات، وهو ما يميز أهل العلم الراسخين، الذين لا ينزعجون ولا يلتفون إلى من يركب مركب أحاديث الفتن وإن كان صوتهم أعلى، فالعبرة بالنجاة باتباع الطريق الصحيح وفق إدريس.
ويبدي إدريس ملاحظتين ذكرهما العلماء حول موضوع أحاديث الفتن، الأولى: أن أحاديث الفتن مجرد إخبار نبوي عما سيكون في المستقبل، ليكون علامة على صدق نبوته، والثانية: أن الواجب على كل مسلم العمل بالشريعة الظاهرة كما بينها أئمة مذاهب أهل السنة، وعدم الالتفات إلى من يدعو المسلم للاشتغال بأحاديث الفتن والأخبار المستقبلية لأنها أحاديث وإخبارات نبوية، محذرا من الوقوع في شرك بعض التأويلات لأنها واقعة في دائرة الرأي البشري غير المعصوم.
استجلاب النصر بين السنن الجاربة والخارقة
في غمرة التعلق بأحاديث الفتن المخبرة عن أحداث ووقائع مستقبلية يقع التعويل على أسباب غيبية تتدخل لنصرة المسلمين على أعدائهم، قافزة على السنن الجارية ومتكئة على السنة الخارقة، التي تقلب الموازين رأسا على عقب، وتخرق ما تعارف عليه البشر في مألوفات عالمهم الدنيوي بأسبابه ومقدماته ونتائجه المعروفة.
وصف الكاتب والباحث الإسلامي، المهتم بالدراسات الفكرية والحضارية، إبراهيم العسعس، تلك المسالك بالخطيرة جدا منهجيا وواقعيا، أما خطورتها المنهجية فتكمن في التعامل مع أحاديث الفتن بنفس منهجية التعامل مع نصوص الأحكام، وهذا خلل منهجي خطير بحسب العسعس، مشيرا إلى أن بعض الصالحين نتيجة تأويلاتهم الخاطئة لبعض النصوص الشرعية جلسوا ينتظرون قيام الساعة في القرن الثاني الهجري.
ونوه العسعس إلى إمكانية إنزال كل أحاديث الفتن والأخبار المستقبلية على الحروب الصليبية السابقة، وقد قال بعضهم بهذا، فقد اجتمع كل "الروم" من سائر الممالك الأوروبية واشتركوا في تلك الحملات على بلاد المسلمين، ما فهم منه بعضهم أن مناطات تلك الأخبار قد تحققت، وهو ما ثبت بطلانه وعدم صحته.
وأوضح العسعس لـ"عربي 21" أن السنن الجارية هي قوانين إلهية عامة ومطردة، وهي لا تحابي المسلمين، ولا تجاملهم، وعليهم معرفة تلك السنن وإدارة شؤون حياتهم، وضبط حركتهم وفقها، ولا يحسن بهم التعويل على السنة الخارقة (خوارق العادات وكرامات الأولياء) في خوض صراعاتهم مع أعدائهم، لأن ذلك فضلا عن مخالفته لظواهر النصوص الشرعية الآمرة بالأخذ بالأسباب، فهو تعويل على أمر لا يمكن القطع باستيفاء شروط تحققه بحال، مع تأكيده أن الله تعبدنا بسننه الجارية لا بسنته الخارقة، والخارق استثناء ولا يقاس عليه.
وتوضيحا لنتائج الخطأ في إنزال أحاديث الفتن والأخبار المستقبلية على أحداث ووقائع محددة، استذكر العسعس واقعة جهيمان العتيبي في أواخر سبعينيات القرن الماضي، التي تأسست في أصلها على فكرة المهدوية بعد تحققها بفهمهم وتأويلاتهم في محمد بن عبد الله القحطاني، وقد تواطأت رؤاهم المنامية على ذلك، وبنوا عليها أحكاما ومواقف أفضت إلى القتل والتدمير.
أما تعقيبه على الرؤية التي تصدر عنها اتجاهات إسلامية، المعتبرة لرجوع أمريكا إلى لمنطقة مرة أخرى بقيادتها للتحالف الحالي بأنه تحقيق لأمر إلهي بجلب أمريكا وتوريطها، وهو ما يهيئ الأجواء لوقوع النبوءات والأخبار الواردة في أحاديث الفتن، فقد اعتبرها العسعس مثالا من وقائع الخطأ المنهجي فهما وتنزيلا، إضافة لما تحدثه تلك الرؤية من هزات عنيفة في أوساط المسلمين تفقدهم الثقة في الدين ونصوصه في حالة تخلف توقعات أولئك وهو ما حدث في العقود السابقة.
العقلية السننية في مواجهة الفكر الخوارقي
من جانبه انتقد الدكتور عايش لبابنة، الأستاذ في قسم الدعوة والإعلام الإسلامي في جامعة اليرموك الأردنية، ما يظنه البعض من أن "الخوارقية" تشكل وجهة نظر علمية أو أطروحة عقلية في التعاطي مع الواقع، مشيرا إلى أن الناظر في تاريخ الفكر الديني عموما يجدها حالة "نفسية – اجتماعية" وليست تعبيرا عن طرح فكري، لذا فإنها تتجلى بحسب الدكتور لبابنة في حالات الضعف والاضطهاد في كل الأديان والفرق.
ويتابع لبابنة تحليله لحالة التعويل على الأسباب الغيبية والخوارقية بإرجاعها إلى عجز مفكري تلك الأديان والفرق عن إنتاج بديل حقيقي للجماعة المضطهدة فيتم الهروب نحو "الأماني" التي تقوم النخبة العاجزة على المواءمة بينها وبين نصوص يتم اجتزاؤها من أدبيات ذلك الدين، بما يشكل ما يمكن تسميته مرض "متلازمة الانتظار".
ويستحضر لبابنة بعض الأمثلة كما في اليهودية والمسيحية بانتظارهما للمسيح المخلص، وما هو معروف عند المسلمين في انتظارهم للمهدي، أو في استحضارهم أحاديث الفتن والملاحم في حالات ضعفهم، لافتا إلى أن اللهجة الانتظارية في الفكر الشيعي قبل نجاح الثورة وقيام الجمهورية الإسلامية، كانت أعلى بكثير، وكانت تحل محل الفعل السنني، فلما أمكن الفعل السنني خفتت تلك اللهجة.
وهي الملاحظة ذاتها المتحققة في الثورات العربية بحسب لبابنة، فقد غابت اللهجة الانتظارية (المخلص والتعويل على الأسباب الغيبية) يوم كان المسلم قادرا على تقديم جهد سنني للتغيير، ثم عادت تلك اللهجة بعد إفشال الثورات.
وحول الخروج من تلك الأزمة المستعصية والمستفحلة، قال الدكتور لبابنة لـ"عربي 21"، إن المقاربة النفسية هي القادرة على معالجتها وليست المقاربات العلمية، فالخوارقية تمثل من الزاوية العلمية تحكما في توجيه النصوص وافتئاتا، وقولا على الله بغير علم، لأن تنزيل الأحداث على نصوص السنة يحتاج دليلا قاطعا.
وخلص لبابنة إلى القول: "بأن الفعل السنني لا يتوقف حتى بقيام الساعة، وحديث "إذا قامت القيامة وفي يد أحدكم فسيلة فليغرسها"، وكذلك فإن الأنبياء عليهم السلام كانوا يوعدون بالنصر بخارقة من الله، ومع هذا كانوا يستمرون بالفعل السنني إلى آخر لحظة، داعيا إلى الإعلاء من شأن "العقلية السننية" للحد من شيوع التفكير الخوارقي في أوساط المسلمين.