كما كل من يعيش في
بريطانيا، تابعت استفتاء الاسكتلنديين على
الاستقلال باهتمام كبير. ولكنني تابعته أيضاً كطالب ودارس للقومية؛ ليس فقط لأن التعبيرات السياسية للهوية لم تزل تثير دهشتي، ولكن أيضاً لأن الوحدة البريطانية كانت تعتبر دائماً الكيان الأقل عرضة للتفكك.
تشكل تاريخ العلاقة بين الكتلتين القوميتين الرئيسيتين في الجزيرة البريطانية من حلقات تنافس وصراع طويلة ودموية، ولكن الوحدة بينهما، التي أنجزت في 1707، وضعت الاسكتلنديين في قلب بريطانيا، وجعلت منهم، مع مرور الزمن، شريكاً متساوياً في صناعة تاريخ بريطانيا وقرارها. كانت
اسكتلندا شريكاً أساسياً، بل وأولياً، في إطلاق الثورة الصناعية، كما لعب الاسكتلنديون دوراً كبيراً في بناء الأداة العسكرية البريطانية، في إقامة الإمبراطورية وفي إدارة مستعمراتها؛ وبرز بين الاسكتلنديين عدد ملموس من الساسة ورجال الحكم والقانون والتعليم والثقافة والفنون، لن يكون غوردون براون، رئيس الحكومة البريطانية السابق، آخرهم بالتأكيد. هذه وحدة راسخة، عززتها ثلاثة قرون من الشراكة والامتزاج، ولا يجب أن تقارن بوضع إيرلندا، التي كانت أشبه بمستعمرة بريطانية في إطار من المملكة المتحدة. فما الذي أوقف البريطانيين، وقطاع واسع من الدول الغربية، على أطراف أصابعهم طوال الشهور القليلة السابقة على استفتاء الاستقلال الاسكتلندي؟ ما الذي جعل هذا العدد من الاسكتلنديين ينحازون مرة واحدة، وبعد كل هذا الزمن الطويل من الوحدة، لفكرة الاستقلال؟
ولد استفتاء الاستقلال قانونياً ودستورياً من برنامج الحزب القومي الاسكتلندي في انتخابات 2012، الذي يدعو منذ عقود لاستقلال اسكتلندا. وكانت حكومة بلير العمالية، في محاولة لتفادي سؤال الانفصال، قد أقرت إصلاحات دستورية وفرت لاسكتلندا قدراً معقولاً من الإدارة الذاتية، بما في ذلك برلمان تشريعي خاص. ولكن الحزب القومي أصر على خيار الاستقلال، ليجعل الاستفتاء حقيقة سياسية بمجرد نجاحه في انتخابات برلمان اسكتلندا 2012. ربما كان يمكن للبرلمان البريطاني المركزي في لندن، وحكومة الائتلاف المحافظة – الليبرالية، بقيادة ديفيد كاميرون، تعطيل التحرك نحو الاستفتاء. وعندما بدأت استطلاعات الرأي في الأسابيع السابقة على الاستفتاء في الإشارة إلى أن نسبة المصوتين بنعم للاستقلال تفوق المصوتين بلا، أو أنها اقتربت منها بصورة كبيرة، كان هناك من وجهوا انتقادات لاذعة لرئيس الوزراء لأنه لم يعمل على تعطيل قرار البرلمان الاسكتلندي. ولكن النتيجة في النهاية جاءت لتؤكد على أن امتناع لندن عن التدخل كان الخيار الأفضل، وأن التدخل كان يمكن أن يؤجج المشاعر القومية ويبقي النار تحت الرماد.
بيد أن الحزب القومي ما كان له أن يحقق النصر في انتخابات 2012، وأن يندفع بهذه القوة نحو استفتاء الاستقلال، لولا الصعود الملموس للمشاعر القومية الاسكتلندية في السنوات القليلة الماضي. تعود الفكرة القومية، التي كانت القارة الأوروبية مهد ولادتها الأولى، إلى عصر التنوير. وتعتبر الثورة الفرنسية، وقيام الجمهورية الفرنسية، ثقافة وحرباً، بنشر فكرة المساواة وحق تقرير المصير، التجلي الأبرز للفكرة القومية في نهاية القرن الثامن عشر. خلال القرنين التاليين، التاسع عشر والعشرين، وبالرغم من أن الأنظمة الإمبراطورية استمرت في الوجود حتى انهيار الاتحاد السوفياتي، إلا أن موضوعة الحركة القومية الأهم: حق الشعوب في تقرير مصيرها، اكتسبت قوة أخلاقية هائلة. بمعنى، أن مطلب الاستقلال القومي لم يعد تعبيراً عن حركة التحرر الوطني أو الطموحات الاقتصادية، وحسب، بل وقيمة أخلاقية عليا بحد ذاتها. طوال قرنين، احتلت الفكرة القومية والنضالات والحروب التي أطلقتها مركز السياسة الدولية؛ وباسم الفكرة القومية وحق تقرير المصير، فككت الإمبراطوريتين العثمانية والنمساوية – الهنغارية، وحققت عشرات الدول الإفريقية والآسيوية الاستقلال عن الامبرياليات الغربية. ولكن طموحات الحركات القومية لم تتحقق دائماً؛ كما أن ذهاب الفكرة القومية إلى نتائجها المنطقية لم يتسبب أحياناً في تشظيات عبثية للأمم، وحسب، بل وكان أيضاً سبباً رئيسياً في حروب عاتية ودموية، بما في ذلك الحرب العالمية الأولى والثانية.
بالرغم من أن المسألة القومية أصبحت مجالاً لبحث المؤرخين وعلماء السياسة والاجتماع منذ أكثر من قرن، إلا أن التعرف على دوافع بروز الهويات وتبلور الفكرة القومية لم يزل في بدايته. في العقود القليلة الماضية، اكتسبت أعمال بنديكت أندرسون وإريك هوبسوم وإرنست غلنر، التي جادلت بأن الأمة هي نتاج عملية إنشاء وليس إحياء، وأن الشعوب تبدأ في رؤية نفسها كأمة بفعل تطور شروط موضوعية، مثل التعليم المركزي والاتصال السريع والطباعة والنشر، إلخ، موقعاً هاماً في دراسة المسألة القومية. ولكن استعصاء المسألة القومية، وعودة الحركات القومية في موجات متتالية، يؤشر إلى التعقيد الهائل الذي يكتنف العمل من أجل فهم القوميات وتوقعها. ثمة حركات قومية، مثل ولادة باكستان، وإيرلندا والعرب بصورة جزئية، لعب فيها الدين، وليس بالضرورة التميزات اللغوية والإثنية، دوراً رئيسياً. وحركات قومية توفرت لها عوامل التاريخ والثقافة واللغة والموقع، مثل الحركة العربية، ولم تستطع بناء أمتها الواحدة. في اسكتلندا، وبالرغم من وجود كنيسة اسكتلندية مستقلة، فإن أغلب الاسكتلنديين، مثل الإنكليز، بروتستانت. كما أن اللغة الإنكليزية أصبحت بمرور الزمن اللغة الأولى لأغلب الاسكتلنديين.
ولذا، فما ساعد على الإحياء القومي الاسكتلندي في العقود الأخيرة كان قوى من نوع آخر. أهم هذه القوى كان الشعور الاسكتلندي العميق بالعدالة الاجتماعية والتضامن في زمن تميز باندفاع بريطاني متسارع نحو تبني الاقتصاد الليبرالي المتوحش، بداية من عهد تاتشر في ثمانينات القرن الماضي، ومتابعته بعد ذلك من قبل الحكومات المتتالية، بما في ذلك حكومة حزب العمال. وبالرغم من أن مسؤولية الدولة تجاه المجتمع تراجعت إلى حد كبير في كل بريطانيا، فإن بعد اسكتلندا عن المركز جعل هذا التراجع مضاعفاً وأكثر تجلياً وأثراً. وليس ثمة شك في أن عودة المحافظين إلى الحكم في بريطانيا ساهمت في تعزيز تصور الاسكتلنديين باختلاف حاجاتهم وطموحاتهم عن تصورات الحكومة البريطانية. ويشعر قطاع واسع من الاسكتلنديين اليوم أن برلمان ويستمنستر، البرلمان البريطاني، ليس بعيداً عنهم مسافة ووعياً بالحياة وشروطها، وحسب، ولكنه أيضاً بات يعج بالسياسيين المحترفين المفسدين. ولأن اسكتلندا تتمتع بمصادر الطاقة، توفرها حقول نفط بحر الشمال والطاقة البديلة، وقاعدة صناعية كبيرة، ومصادر ثروة زراعية وسمكية، يعتقد كثير من الاسكتلنديين أن بإمكانهم صناعة مستقبلهم في استقلال عن لندن البعيدة.
بيد أن خيار الاستقلال لم يكن خياراً سهلاً. ولأن انفصال اسكتلندا يشكل نكسة كبرى لمسار بريطانيا التاريخي، كما قد يشكل خطراً استراتيجياً بالغاً على الجزيرة البريطانية، احتشدت النخبة البريطانية، السياسية والمالية – الاقتصادية، اسكتلنديين وإنكليز، لمواجهة حركة الاستقلال. وقد نجح أنصار حملة الحفاظ على الاتحاد في النهاية في إثارة مخاوف القطاع الأكبر من الاسكتلنديين من المستقبل، مستقبل البلاد الاقتصادي واستقرارها المالي. الذين صوتوا بنعم للاستقلال (45 بالمئة)، كانوا بالتأكيد من اعتقدوا بإمكانية إقامة اسكتلندا أفضل، أو الذين قدموا اعتبارات الهوية على الاعتبار الاقتصادي. أما الذين صوتوا بلا (55 بالمئة)، فالأرجح أنهم مثلوا في أغلبيتهم الإنسان الاقتصادي، بكل مخاوفه وشكوكه ورغبته في تجنب المغامرة. على أن هزيمة حركة الاستقلال، التي نجحت في جلب قطاعات هائلة وغير مسبوقة من الاسكتلنديين إلى المجال العام والاهتمام بالسياسة، لا تعني بقاء الأوضاع على ماهي عليه. فعندما يصوت مثل هذا العدد للاستقلال، لابد للندن أن تأخذ حركة الاستقلال في الاعتبار وأن تمنح اسكتلندا المزيد من السلطات لإدارة شؤونها الذاتية.
المهم، على أية حال، أن اسكتلندا، ومثلها كاتالونيا وشقي الأمة البلجيكية، كما التشيك والسلوفانيين من قبل، تقدم دليلاً واضحاً على أن مجرد بناء كيان كبير وتعددي، مثل الاتحاد الأوروبي، لا يكفي لاحتواء القوة الهائلة للفكرة القومية وطموحات الهوية. هذا زمن الهويات بامتياز، وليس ثمة وسيلة لبناء استقرار وتعايش بدون أن توضع مسألة الهوية في الاعتبار.