في تاريخنا
الفكري عدد من الكتب التي فجرت معارك فكرية كبرى، منها على سبيل المثال كتاب "الإسلام وأصول الحكم" عام 1945م للشيخ علي عبد الرازق، الذي حاول علمنة الإسلام، بجعله مثل النصرانية يدع ما لقيصر لقيصر وما لله لله، وذلك بتصويره دينا لا دولة، ورسالة لا حكما، وشريعة روحانية محضة لا علاقة لها بالقانون أو
السياسة أو التشريع، إذ كما جاء فيه: "يا بعد ما بين السياسة والدين"!.
ومن هذه الكتب - أيضا - كتاب "في الشعر الجاهلي" عام 1926م للدكتور طه حسين، الذي طبق فيه منهج الشك ليس على الشعر الجاهلي وحده، وإنما على القرآن الكريم، فأنكر الوجود التاريخي لأبي الأنبياء إبراهيم - عليه السلام - ولابنه إسماعيل - عليه السلام - ولرحلتهما الحجازية، وإقامتهما قواعد البيت الحرام، كما اعتبر أن علاقة الإسلام بملة إبراهيم هي "حيلة" و"أسطورة" من الأساطير!.
ومن هذه الكتب أيضا كتاب سلامة موسى "اليوم والغد" الذي قال فيه: أنا كافر بالشرق، مؤمن بالغرب، أريد اللغة العامية، لغة الهكسوس، بدلا من الفصحى لغة التقاليد العربية والقرآن!.
ولقد أثارت هذه الكتب - وأمثالها - معارك فكرية كبرى، لما مثلته من
التغريب والغزو الفكري الذي يريد إلحاق الشرق بالغرب، في الهوية الحضارية، والسير على طريق الغرب في الحكم والإدارة والتشريع، وقبول النموذج الحضاري الغربي كله، حلوه ومره، خيره وشره، ما يحب منه وما يكره، ما يحمد منه وما يعاب - كما قال طه حسين في كتابه "مستقبل الثقافة في مصر" عام 1938م.
لكن هناك كتابا للدكتور طه حسين - عنوانه "قادة الفكر" نشره عام 1925 م - ظهر فيه الرجل "درويشا" يتعبد في محراب الغرب الإغريقي والروماني، داعيا
الحضارة الشرقية إلى التسليم وإلقاء السلاح وقبول الهزيمة أمام "السوبر مان اليوناني"..
ففي هذا الكتاب يرى طه حسين أن قادة الفكر العالمي، عبر التاريخ ليس فيهم إلا من هو غربي، وأن الفكر الإنساني قد بدأ بالفلسفة اليونانية بعد الشعر اليوناني!، وأن ظهور المسيحية والإسلام بالشرق في العصور الوسطي، لم يكن إلا جملة قصيرة معترضة عادت بعدها السيادة للفلسفة اليونانية في العصر الحديث.
ولقد أخذ طه حسين - في هذا الكتاب - يفصل في مبالغات عشقه لليونان، حتى لكأنه "المريد" في الطريقة الإغريقية" فيقول: "إلى تاريخ اليونان ترجع الحضارة الإنسانية القديمة والحديثة".
ولقد ظهر العقل الإنساني في العصر القديم في مظهرين مختلفين: أحدهما يوناني خالص، وهو الذي انتصر، وهو الذي يسيطر على الحياة الإنسانية اليوم، والآخر شرقي، انهزم أمام المظهر اليوناني، وهو الآن يلقي السلاح ويسلم للمظهر اليوناني تسليما"!.
وفي هذا الكتاب يتحدث طه حسين عن فلسفة أفلاطون التي تدعو إلى زوال الأسرة ومحو الملكية، وجعل المرأة مشاعا بين أفراد الطبق، وإسناد تربية الأولاد إلى الدولة!.. يتحدث طه حسن عن هذه الفلسفة فيقول: "إن آثار أفلاطون كلها آيات، لا بالقياس إلى الأدب اليوناني وحده، بل بالقياس إلى الأدب الإنساني كله، سواء منه القديم والحديث"!.
أما أرسطو - الذي تجاوز المسلمون منطقه الصوري بالاستقراء والمنهج التجريبي، وتجاوز الغربيون الكثير من مقولاته - فإن طه حسين يقول عنه: "إن اسمه هو من الأسماء الخالدة التي قد تكون أشد من الدهر قدرة على البقاء"!.
ولم يقف طه حسين - في هذا الكتاب - عند المبالغات الغربية في "عشق الأفكار"، وإنما ذهب إلى الغزل في القوة الغربية التي قهرت الشرق لعشرة قرون قبل ظهور الإسلام، فتحدث عن الاسكندر الأكبر فقال: "إنه لم يكن قائد جيش لا غير، وإنما كان قائد فكر، لم يكن يريد أن يفتح الأرض وحدها، وإنما كان يريد أن يفتح معها العقل، بل قل إنه إنما كان يفتح الأرض تمهيدا لهذا الفتح العقلي، بل لا تستعمل كلمة الفتح، فلم يكن الإسكندر الأكبر فاتحا بالمعنى الذي فهمته الأجيال المختلفة، وإنما كان قائدا من قادة الفكر، بل هو زعيم من زعماء قادة الفكر، بل هو أشد قادة الفكر القدماء إنتاجا وأكثرهم نفعا"!.
تلك صفحة من صفحات عشق طه حسين لكل ما هو غربي، وهيامه بكل ما هو يوناني، طواها الرجل بعد أن نضج، فغدت ذكرى في كتاب الأفكار.