لا شك أبدا في أن كسر نتنياهو للتهدئة المؤقتة الأخيرة التي كان يُتوقع أن تختتم باتفاق، إنما جاء بعد توفر معلومات من "الشاباك" عن مكان وجود القائد العام لكتائب
القسام محمد
الضيف، وتوفر فرصة لاغتياله.
هنا سال لعاب نتنياهو الذي لم يستمتع طوال شهر من المعارك باغتيال أي من قادة القسام الكبار، فقرر أن يحقق إنجازا يمنحه بعض البريق في المجتمع الصهيوني، فقرر كسر التهدئة لضرب منزل وتدميره على رؤوس من فيه لأجل قتل "الضيف"، فكان أن قتل زوجته وطفله وطفلته.
المؤسف بالطبع أن اليوم التالي قد شهد نجاح الاحتلال في
اغتيال ثلاثة من أبرز قادة القسام وهم (رائد العطار، محمد أبو شمالة ومحمد برهوم)، وهي ضربة موجعة بلا شك، ويبدو أن الصهاينة قد استغلوا التهدئات الإنسانية في إعادة ترتيب صفوف عملائهم على الأرض، والذين تمكنوا من الوصول إلى مكان القادة الذين لم يكونوا في الأنفاق كما كان الصغار يتحدثون بين حين وآخر، بل كانوا يديرون المعارك من فوق الأرض، ولو كانوا في الأنفاق لما عابهم ذلك ما داموا منخرطين في المعركة، ورجالهم يبذلون الدماء.
تاريخيا كان المحتلون يعتبرون أن هناك من الرموز من لا يتطلب اغتيالهم عودة إلى المستوى السياسي، ويسمونهم "قنابل متكتكة"، إذ بوسع الجهاز الأمني أن يغتالهم لحظة توفر الفرصة، ويحدث أحيانا أن يتم تجاوز كل المعايير "الأخلاقية" التي يدعيها العدو من أجل تحقيق الهدف.
في العام 2012، جرى كسر التهدئة من أجل اغتيال القائد الكبير أحمد الجعبري، وهذه المرة كسرت التهدئة لأجل اغتيال محمد الضيف، وفي حالة صلاح شحادة جرى تدمير عمارة كاملة وقتل 17 فردا من عائلة صلاح شحادة لأجل اغتياله، وهو ما تكرر أيضا في حالة القائد الشيخ نزار ريان.
نحن إزاء بعدين في هذه السطور؛ يتعلق الأول بهذه المعركة التي نحن بصددها، بينما يتعلق الثاني بالقادة الشهداء، وتأثير استشهادهم في مسيرة الجهاد والمقاومة.
في البعد الأول يمكن القول إن الرد العملي والطبيعي ينبغي أن يأتي من طرف الراعي المصري للمفاوضات، فما جرى من كسر للتهدئة والمفاوضات على وشك التوصل إلى اتفاق من أجل اغتيال الضيف يمثل صفعة لراعيها الذي كان ينبغي أن يرد على ذلك، لكنه لم يفعل كما كان متوقعا طوال الوقت، وما سيرة المبادرة والمفاوضات بعدها سوى تأكيد على الموقف من حماس وإرادة تركيعها.
كان من الطبيعي والحالة هذه أن ترد حماس بوقف المفاوضات، إن كان عبر "أبو عبيدة"، أم عبر مشعل، من دون أن يعني ذلك نهاية المطاف، لكن العودة لن تكون هذه المرة سوى بضمانات لتحقيق مطالب المقاومة، أو الحد المقبول منها (قرار من مجلس الأمن لا يمكن استبعاده وسيعتمد الموقف منه على حيثياته)، ذلك أن الاعتقاد بأن المقاومة قد كسرت هو محض وهم، وهي قادرة على الصمود لفترات طويلة، بينما سيعجز الطرف الصهيوني على تحمل حرب استنزاف طويلة مكلفة على مختلف الأصعدة، وقد لاحظنا كيف كان نتنياهو، وكما كان في كل خطاباته السابقة يسعى إلى بث الصبر في أوصال مجتمعه عبر الحديث عن الرصيد الإستراتيجي الذي تحقق ممثلا في تحالف عربي يساند كيانه.
وإذا لم يحدث ذلك فليتواصل التصعيد، وليتحمل كل مسؤولياته، فيما ستكون الأنظار مصوَّبة هذه المرة نحو الضفة الغربية التي ينبغي أن تنتفض بشكل واضح، لاسيما أنها الوحيدة القادرة على الضغط على أعصاب العدو، لكن المصيبة أن "تلاميذ دايتون" قد أخذوا يستعيدون نشاطهم التقليدي يمطاردة رائحة المقاومة والانتفاضة، ولا شك أن تأليف حكاية الخلايا التي ستنقلب على السلطة من قبل حماس إنما كانت لتوفير ذريعةلإعادة الشرخ بين الناس الذين التفوا حول المقاومة، وكي يعيد التماسك لحركة فتح ضد المقاومة بعد أن تفاعل عناصر منها مع ما يجري في
غزة، بل وانتقدوا سلوك قيادتهم (عباس لم يلفظ كلمة عن القادة الذين اغتيلوا، هو الذي لطم على المستوطنين الثلاثة!!).
بالنسبة للمسألة الثانية المتعلقة بالقادة، فإن من الصعب القول إن فقدانهم ليس بالأمر الصعب، لكن مسيرة حماس منذ التأسيس ولغاية الآن أثبتت قدرتها على التعويض، وما من حركة مثل حماس فقدت قادة في تاريخها، تليها حركة فتح.
حماس فقدت معظم جيل التأسيس شهداء، وكذلك قادة العمل العسكري في كل المراحل، وأهم قادة العمل السياسي، واستهدف رموزها في الخارج (مشعل، عزالدين الشيخ خليل، المبحوح)، لكنها ظلت قادرة على التعويض، بخاصة في العمل العسكري، وإن كان الأمر أصعب في الميدان السياسي، إذ لم يظهر مثلا (إلى الآن على الأقل) رجل مثل الشيخ أحمد ياسين أو الرنتيسي، لكنها تبقى حركة جماعية، وفيها من جحافل الشبان من سيبرزون في الميدان السياسي والميدان العسكري، وكل الميادين.
إنها فلسطين التي لم يبخل رحمها يوما بإنجاب أروع الرجال، وهي تنجبهم على الدوام. تودع شهداء وتستقبل أبطالا يصطفون على درب الشهادة. فسلام على الشهداء، وسلام على من يحملون راية الحق إلى يوم الدين.