خندق بعمق أربعة أمتار وعرض ثلاثة فقط، يعد منفذ النجاة الوحيد لعشرات العائلات الحلبية السورية إلى الحياة الآمنة التي تؤمنها
تركيا لهم بعيدا عن صواريخ وبراميل طائرات النظام السوري، ضمن رحلتهم في "
التغريبة السورية".
هم نازحون من كل الأعمار، تركوا خلفهم منزلهم المدمر أو المتضرر من برميل سقط من مروحية، أو صاروخ أطلقته طائرة حربية، آخذين معهم ذكرياتهم منذ الطفولة عن أحيائهم التي أصبحت مكاناً تقطن فيه الأشباح، لتبدأ رحلتهم للمعبر الوحيد لمدينة حلب إلى الحدود التركية، باب السلامة بالقرب من مدينة إعزاز، حيث يختارون: إما مخيما حدثت فيه مؤخرا تفجيرات، مرددين عبارة "الصبر مفتاح الفرج"، أو العبور إلى تركيا، ليدخلوا إلى الرحلة الأصعب في التغريبة السورية، لأن الأغلبية منهم مجردة من أي أوراق رسمية تثبت وجودهم، مع القليل من المال الذي يكفي وصولهم للطرف الآخر، ولو توافرت لديهم الهوية الشخصية والبطاقة العائلية فإن معبر باب السلامة لا يقبل إلا بجوازات السفر التي تصدر من قبل النظام السوري أو ببطاقات اللاجئ التي يحصل عليها السوري خلال وجوده في تركيا، لذا تتوجه هذه العائلات إلى ملاذها الوحيد وهو الخندق الذي حفرته السلطات التركية على الحدود بعمق أربعة أمتار أو خمسة أو ستة وعرض ثلاثة أو أربعة أمتار.
وهنا يبدأ السماسرة باستغلال هذه العائلات النازحة بدءا من أجرة السيارة التي ستقلهم إلى إحدى المناطق القريبة من معبر باب السلامة، وانتهاء بإيجار الدخول (دلولية الطريق) إلى الداخل التركي، وما لهذه العائلات إلا أن تقبل بكامل الرضا دون أي رفض أو مفاوضة على السعر، بسبب حاجتها إلى ملاذ آمن.
تدخل هذه العائلات في الخندق تحت جنح الظلام أو عند الفجر، بعد أن تكون قد باتت ليلة أو ليلتين في أحد المساجد في معبر باب السلامة، وسط بكاء الأطفال وأصوات الدعاء على بشار الأسد من الأمهات والشيوخ، لتصل فيما بعدها إلى الحاجز التركي الذي يعتبر الاختبار الأصعب لكل الهاربين إلى الداخل التركي.. فإما أن يكون الحظ حليفهم ويلتقوا بضابط "ابن حلال" يغض النظر عن دخولهم وهذه حال الغالبية، أو أن يكون ضابطا "ظالما" أو -كما يقول الداخلون دائما- "علويا"، فيرفض دخولهم، وفي هذه الحالة تعود هذه العائلة أدراجها إلى مخيم باب السلامة الذي يقيم فيه آلاف النازحين، أو تذهب لتبحث عن منزل في قرية تقع تحت نيران القذائف.
يقول أحمد وهو أحد النازحين من مدينة حلب: "بعد أن تهدم منزلنا وسقطت علينا مئات القذائف، اجتزت الحدود المنتشرة على طول مدينة حلب وتوجهنا إلى مدينة كلس مع القليل من المال الذي يكفي طعام أسبوع واحد، أقمنا في أحد المساجد أنا وزوجتي وأطفالي الثلاثة مدة يومين، ومن ثم تم ترحيلنا إلى إحدى الصالات الرياضية في مدينة نذيب التي جلسنا فيها مدة شهر كامل، بعدها تم إبلاغنا بتجهيز أنفسنا لترحيلنا نحو أحد المخيمات".
ويتابع أحمد بحرقة: "تم نقلنا بالباصات وكان الجو بارداً ومثلجا في تركيا ووضعونا في أحد المخيمات التركية في المناطق الداخلية، وعندما شاهدنا الخيم والوضع المزري قررت العودة إلى قريتي القابعة تحت نيران القصف، لكنني قررت الصبر لأن العودة ستكون أصعب من البقاء وستكون كارثية على أطفالي الذين عانوا كثيرا، إلى أن تم قبولنا بمخيم لجوء".
تحسنت أحوال أحمد وعائلته في المخيم فيما بعد، حيث بدأوا يتلقون 80 ليرة تركية على كل شخص أي ما يعادل 40 دولارا شهرياً، لكنه مازال ينتظر "الفرج" وأن تنتهي الحرب ليعود السوريون إلى منازلهم، يقول بحزن والابتسامة مرسومة على وجهه: "أعلم أنه لم يعد لدي منزل لكن سنعيد إعماره إن شاء الله".
أخذت مئات العائلات السورية معها إلى تركيا ذكرياتها عن شهيد رحل أو جريح ليكمل علاجه بعيدا عن منزل أصبح ركاما أو ما يزال منتصباً ينتظر قذيفة لينهار، والعديد من العائلات ما زالت تقف على الحدود مع تركيا تنتظر العبور ضمن رحلة تغريبتهم التي باتت في كثير من الأماكن أصعب من التغريبة الفلسطينية.