لم ترحم قذيفة مدفعية إسرائيلية طالت سوقاً شعبياً في حي الشجاعية، شرقي مدينة
غزة، في ثاني أيام عيد الفطر، الأسبوع الماضي، المواطن محمود سكر (29 عاماً)، حيث أفقدته نصف ساقه اليسرى، ومررت حياة أسرته التي كان يعيلها هو وحده.
في مستشفى الشفاء (كبرى مستشفيات قطاع غزة)، يرفع سكر ساقه اليسرى بصعوبة بين يدي الطبيب، ليضمد جراحه التي أصيب بها في ذاك السوق التي تعرض كغيره من الأماكن الأخرى في القطاع لقصف خلال الحرب الإسرائيلية التي شنتها تل أبيب في السابع من الشهر الماضي، قبل أن يتم التوصل إلى هدنة "إنسانية" لمدة 72 ساعة، أمس الثلاثاء.
وبينما يلف الطبيب شاشاً معقماً على ساقه، كان سكر يتأوه ألماً ويبكي من شدة الأوجاع التي تسبب بها ذلك القصف الذي أسفر آنذاك عن مقتل نحو 25 شخصاُ، وإصابة المئات، بحسب وزارة الصحة الفلسطينية.
وبحجم الآلام التي يُعاني منها، يراود سكر مخاوف كبيرة على مستقبل أسرته التي كان يعيلها قبل أن يصبح حبيس أسرَّة العلاج، ولم يعد باستطاعته العمل كما كان يفعل من قبل، لإطعام أفراد أسرته (ثلاثة أولاد وبنت واحدة ووالدتهم).
ويقول سكر بحزن شديد يغلف صوته المتقطع، "سابقاً كنت أنجز أعمالاً شاقة، مقابل أجر بسيط أوفر به الطعام لأبنائي.. لكن الآن، لم يعد باستطاعتي العمل أو إنجاز شيء".
في الأيام الأخيرة للحرب كان ضَجَر نجل محمود سكر (عاصم 10 أعوام) يزداد مع كل دقيقة إضافية يقضيها داخل المنزل، فأجواء الحرب التي حرمته الخروج منه لم يعد بإمكانه تحملها، وبات يريد مغادرته بأي طريقة كانت.
ويتنقل عاصم بسرعة داخل المنزل محاولاً أن يختلس فرصة للخروج منه، وتوافقه في الفكرة شقيقته لينا (9 أعوام)، علهما يجدان ما يخفف عنهما سأم أيام الحرب الطويلة التي أمضوها بين أربعة جدران.
حينها، أدرك الأب أن عاصم ولينا، على وشك الخروج تحت نيران القصف الإسرائيلي، وومضت في ذهنه مشاهد كثيرة من القتل والدمار في غزة، ولم يكن أمامه سوى أن يغلب إصرار أبنائه، ويسكتهم بحلوى قرر شراءها من سوق الشجاعية، الذي يقع على الأطراف الغربية للحي الشرقي للمدينة.
ووفق روايته، غادر سكر المنزل لوحده، وضربات قلبه تخفق بعنف شديد خوفاً من أن يصيب أفراد عائلته أي مكروه بفعل القصف.
ولأنه كان يدرك تماماً، أن الآليات الإسرائيلية المتمركزة إلى الشرق من الحي، تطلق قذائفها بشكل عشوائي، أراد أن يشتري الحلوى من محل يمتلكه شقيقه، وأن يعود سريعاً إلى المنزل حيث أبناؤه وزوجته في انتظاره على أحر من الجمر، كما يقول.
ويضيف: "حين وصلت إلى أحد المتاجر، كان شقيقي بصدد شراء بعض الأغراض والاحتياجات الضرورية له، وطلب مني أن أبقى بداخله حتى يعود، فاستقل دراجته النارية، وتحرك بها لبضعة أمتار قليلة". وما هي إلا ثوانٍ، حتى بدأت القذائف الإسرائيلية تنهال على السوق الذي كان يسير فيه المئات من المواطنين، بينهم نساء وأطفال.
سقط محمود سكر أرضاً على بعد بضعة أمتار من مكان القصف، بعد أن أصابت قذيفة مدفعية جدارا بجانبه، وأخذت معها نصف ساقه، وتركته ينزف الدماء، بينما قتلت وأصابت العشرات من حوله.
ومضى واصفاً مشهد القصف: "فجأة ودون سابق إنذار بدأ القصف على السوق.. كان فيه المئات من المواطنين.. لا أعرف كيف وجدت نفسي ملقى على الأرض ونصف ساقي غير موجود.. لحظتها أصبت بحالة إغماء".
وأكمل حديثه "أوقعت القذيفة الأولى عدداً كبيراً من المصابين، وتجمع الناس والصحفيون حولنا، وحينها تجدد القصف فسقط عدد كبير جداً من الشهداء والجرحى (بينهم صحفي ومسعف)".
والآن، يرقد سكر على أسرَّة مجمع الشفاء الطبي (كبرى مستشفيات قِطاع غزة)، يتلقى العلاج، ويحيط به الكثير من الآلام والأسى بفعل بتر ساقه اليسرى من المنتصف (مفصل الركبة).
وما من أحد يرى الجريح سكر، المعيل الوحيد لأسرته كما يقول، إلا ويلاحظ الثقوب ذات الأقطار والأعماق المختلفة في جسده ويبكي ألماً بسببها، وبات غير قادر على الحركة إلا بمساعدة أحد.
وبات المستقبل وحده ما يخيف سكر على أفراد أسرته، بحسب قوله، بعد أن بترت القذيفة ساقه، وجعلته مقعداً، غير قادر على فعل المستحيل لتوفير لقمة عيش لأولاده، كما كان يفعل من قبل.
ويقول: "لا أريد أن يتجاهلنا أحد، فنحن بحاجة إلى من يضمد جراحنا، ويوفر لنا الدعم اللازم، فلا أدري كيف سأعيل أسرتي بعد الآن".
وأعلن الجيش الإسرائيلي، صباح الثلاثاء، انسحاب قواته البرية إلى "خطوط دفاعية" خارج قطاع غزة، وذلك بعد دخول تهدئة (تم الاتفاق عليها بين الفصائل الفلسطينية وإسرائيل برعاية مصرية) حيز التنفيذ لمدة 72 ساعة.
وأسفرت الحرب التي شنتها إسرائيل على قطاع غزة بدعوى وقف إطلاق الصواريخ من غزة على بلدات ومدن إسرائيلية، حتى صباح الثلاثاء، عن استشهاد نحو 1867 فلسطينياً وإصابة 9470 آخرين، بحسب وزارة الصحة الفلسطينية.
ووفقا لبيانات رسمية إسرائيلية، قتل في هذه الحرب 64 عسكرياً و3 مدنيين إسرائيليين، وأصيب حوالي 1008، بينهم 651 عسكرياً و357 مدنياً، بينما تقول كتائب الشهيد عز الدين القسام، الجناح العسكري لحركة حماس إنها قتلت 161 عسكرياً، وأسرت آخر.