أعلنها شمعون بيريس بكل ثقة: «لم يعد هناك عالم عربي معاد لإسرائيل»! ونقلت عنه «القدس العربي» أنه دعا، أثناء عيادته جنودا إسرائيليين جرحى في بئر السبع، إلى تسليم قطاع غزة لمحمود عباس لأنه «السلطة الشرعية الوحيدة»، فالأجدر هو إعادة غزة له «بعدما أثبت قدرته على إدارة شؤون الضفة الغربية، وهو مناصر للسلام ومؤيد لإنقاذ القطاع ويتمتع بدعم مصر والعالم العربي».
لا يمكن المجادلة في صحة ما قاله الداهية الطاعن في المكر عن اندثار العالم العربي الذي كان معاديا لإسرائيل. إذ لو كان هنالك اليوم عداوة، ولو نظرية، لكنّا رأيناها أو سمعنا لها ركزا. ما قاله بيريس لا يعدو كونه تقريرا لواقع. إلا أن هذا الواقع ليس بالجديد. الشيء الجديد الوحيد هو أن التحالف الذي كان موضوعيا، أو قائما بحكم الأمر الواقع، بين النظام الرسمي العربي وبين دولة إسرائيل قد صار الآن تحالفا إراديا، أو لعل الأصح أن التحالف الذي كان سريا قد صار الآن علنيا.
إذ إن من تطورات النظام الرسمي العربي، الذي أثبت أن حفنة ثورات وانتفاضات أو حتى حروب ومجاعات لن تعجزه عن تدبر أمر البقاء والاستمرار والدوام، أنه صار أكثر انسجاما مع نفسه وأعمق تصالحا مع ضميره. فلم يعد يكترث للتظاهر بالاستمرار في محاولة ستر وضعه الوضيع بورقة توت الشجب والتنديد والتذكير بقرارات الشرعية الدولية والدعوة لاجتماع مجلس الأمن. بل إنه بات مطمئنا إلى أن رأس الحكمة هو في الصمت والتجاهل والانصراف لشؤون أهم.
وكان عرفات قد سمع دوي هذا الصمت المصم عندما ضرب شارون عليه الحصار في المقاطعة عام 2002، حيث لم يكلف أحد من الرؤساء والملوك نفسه عناء الاتصال به تلفونيا ولو لمجرد السؤال، من منطلقات إنسانية، عن وضعه الصحي. النظام الرسمي العربي مغتبط بما تتعرض له غزة اليوم، ولا يستبعد أن يكون يدعو لجيش الاحتلال الإسرائيلي بالنصر المؤزر.
من الصعب الجزم أيهما الشعور الأقوى في قرارة هذا النظام الجاثم كالكركدن: أهو محبة إسرائيل أم كراهية الإسلاميين؟ ومع ذلك، فإنه يبدو من مسلك الحكام الحكماء في الفترة الأخيرة أن التاريخ قد علمهم أن ليس هنالك في العالم إلا شر وحيد: إنه الإخوان المسلمون عربيا، أي حماس فلسطينيا. أما ما عدا ذلك فليس هناك، بالتجربة الملموسة، إلا خلان وأحبة أقربهم وأحبهم هو الجار الإسرائيلي الوديع.
وهذا أيضا ليس بجديد. فقد سبق لشيخ الأزهر الراحل أن صافح بيريس قبل بضع سنوات في نيويورك، وبعد ذلك أنكر ثم زعم أنه صافحه دون أن يدري من هو. وعندما كثرت عليه الأسئلة واشتدت إلحاحا، أجاب متبرما: «أليس بيننا وبينهم صلح؟». وها أن الأنباء ذكرت أخيرا أن هناك مادة دراسية جديدة وضعت خصيصا للأئمة الذين سيتم تخريجهم مستقبلا في الأزهر تتعلق بالحث على حسن الجوار مع إسرائيل وعدم التعرض لها بأي أذى، حتى لو بمجرد الكلام، لأن الإحسان للجيران فرض على المسلمين كما علمنا الرسول الكريم. ولا عجب في أن هذا التخريج الفقهي الرشيق لمسألة الموالاة والمعاداة قد أتى في التوقيت السياسي المطلوب بالضبط. فهي مجرد مصادفة ليس إلا.
وإذا كانت تصريحات الساسة وتلميحاتهم بشأن الحقيقة الكونية القائلة بأن إسرائيل ليست عدوا كثيرة وعابرة للأقطار العربية، فإن الكتّاب الذين يجدون أنفسهم دوما على اتفاق مع النظام الرسمي العربي – علما أنه اتفاق يأتيهم بالسليقة والموهبة لا يطلبونه ولا يجتهدون فيه – قد أصبحت تحليلاتهم في هذا الشأن أكثر من أن تحصى.
وهنالك مسؤولون عرب في مؤسسات كبرى لها تأثير واسع أعرفهم منذ زمن بعيد ليس لديهم أي ذرة من تضامن مع الشعب الفلسطيني، ولكنهم ذوو قدرة فائقة في تفهم هواجس إسرائيل وتبرير مماطلاتها التفاوضية وفي التذكير بأن الفلسطينيين «لا يبددون أي فرصة لتبديد الفرص»! وقد احترت طويلا في ظاهرة «بغض الأخ ومحبة العدو» هذه، فلم أجد تفسيرا سوى أن هؤلاء عاجزون عن أن يضعوا أنفسهم موضع المظلوم المقهور وأن يتخيلوا جرحه وألمه لأنهم، هم أنفسهم، يمارسون الظلم يوميا. إنهم ظلمة معتدون سواء بالوضع الاجتماعي أم بالتركيبة النفسية، فأنّى لهم الارتقاء إلى التضامن الإنساني أو الوطني.
ظاهرة مقززة مخزية. فلو نظرنا إلى تاريخ الكفاح ضد النظام العنصري في جنوب إفريقيا، لما وجدنا بين الأفارقة مثيلا لهذا النموذج العربي المرضي في بغض الأخ ومحبة العدو. إذ لم يكن هناك بين جيران الشعب الإفريقي الجنوبي أفارقة كارهون لإخوتهم ناقمون عليهم أنهم اختاروا بمحض إرادتهم أن يكونوا ضحايا للغزاة القادمين من شعث البلدان.