كأن الزمن الإنجليزي تحت إدارة
توني بلير كان يتدحرج إلى الوراء بدل إن يسير قدما إلى الإمام، وبدلا من أن تنظف
بريطانيا نفسها من الزمن، تطبيقا لنظرية غوتة، نظفت نفسها من المستقبل، وبدا بلير كمندوب مبيعات متجول يبدي حماسة في المزادات أكثر منه رئيس وزراء لدولة كانت ذات يوم إمبراطورية لا تغيب عنها الشمس.
كان بلير حائرا ما بين التاريخ، أي بريطانيا العظمى سابقا، وبين السعي من جهة أخرى إلى بناء دولة عظمى في أوروبا لعصر ما بعد (توازن القوى) والحرب الباردة.
ولادة جديدة لبطرس الناسك الذي زار القدس قبل نحو تسعمائة عام، وبدلا من أن يعود إلى روما بروح مفعمة بالغبطة والسرور لقيامه بواجب ديني، أصبح مبشرا لفكرة طرد المسلمين من الأراضي المقدسة، مدفوعا بتعصب وحماس دينيين سار نحو ثلاثمائة ألف مقاتل تحت إمرته نحو الشرق فاستولوا على القدس.
ربما كان بلير الأكثر اندفاعا ووضوحا وذكاء في الحملة الأنجلو سكسونية ضد العراق وضد ما أطلق عليه "الإرهاب".
وكان يمزج ما بين الاهتمام التبشيري القائم على حرب عادلة وتوقه لإحياء نفوذ بريطانيا الاستراتيجي لزمن ما بعد الاستعمار، أو عالم ما بعد "الحداثة" كما ذهب توم بنتلي مدير مركز الدراسات المستقبلية في لندن، هذا المزج المغلف بالتبرير كان كافيا إلى دفع الحكومة البريطانية إلى المشاركة في النزاعات السياسية والمسلحة، مرفقا بانتهازية وبراغماتية وتمسكا بالظروف الملائمة أكثر من تمسكه بالمبادئ الثابتة.
كان يقوم بدور الرئيس الأميركي
جورج بوش الابن خارجيا، أو حصان طروادة داخل الاتحاد الأوروبي فهو سفير فوق العادة أو رئيس وزراء بصلاحيات سفير، وهو أيضا خطيب يتقن حرفته، وهو ينتقي كلماته بعناية على عكس إدارة بوش التي تفتقد للوضوح والتبريرية.
لكن لماذا يضع بلير نفسه في هذا الموضع حيث ترسمه الصحف البريطانية كما لو كان حيوانا وديعا ومدللا في حضن الرئيس بوش؟ ولماذا تورط في تبرير الحرب ضد العراق وواجه معارضة حزبه وجماهيره الذين كانوا يرون في الحرب مصلحة لصقور البيت الأبيض: بيرل وتشيني وولفويتز؟ ربما كان يريد أن ينتهز اللحظة التاريخية والتصرف بعد دخول أوروبا الموحدة إلى العالم الجديد، ساعيا إلى دور جديد لبريطانيا، دور يتيح لها الوساطة وإدارة النزاعات الدولية.
هذه الرؤية الأخلاقية ظاهريا كان يشوبها الشك والمخاطر، فقد قدم للولايات المتحدة الولاء والطاعة وهو مسكون برغبة في الاحتفاظ بالسلطة أكثر من تمسكه بالأخلاق.
براغماتية بلير أفرزت مصطلح (الطريق الثالث)، ليس اشتراكيا وليس رأسماليا أيضا، واكتسح هذا الطريق أوروبا في الانتخابات التي جدرت في تلك الفترة، رغم أنه يميل ضمن تصنيفات السياسة إلى يسار الوسط، وبدا وكأن الطريق الثالث لدى بلير يؤدي إلى مكان واحد: البيت الأبيض، طريق فرعي يفتح على (اتوستراد) تمر عبره القوافل الأميركية، جدولا صغيرا بائسا في بحر واشنطن.
كان هدف بلير الشخصي، المولود عام 1953 في ادنبرة، والذي درس القانون في أوكسفورد، أن يكون قائدا تاريخيا وان يعيد بناء سياسة بلاده الخارجية، وكاد أن يقترب من مارغريت تاتشر زعيمة حزب "المحافظين" والتي صاغت الخطاب البريطاني منذ منتصف السبعينيات تقريبا، وربما شكلت له تاتشر مرجعية سياسية أكثر من قادة حزب" العمال" التاريخيين نيل كونيك وجون سميث، معلنا أن انتخابه كان تصويتا على المستقبل وليس لإيديولوجية وعقيدة تخطاهما الزمن.
في سنوات التسعينيات كانت ثمة ثلاث محطات رئيسة في حياته السياسية فقد فاز عام 1983 بمقعد عن حزب العمال وبدأ رحلة صعود سريعة لسلم الحزب وتسلم وزارة الداخلية في حكومة الظل. كما انتخب في عام 1994 رئيسا لحزب العمال واتهمه زعيم نقابات العمال آرثر سكارجيل باعتناق الرأسمالية والارتقاء إلى حضن الشيطان. وفي عام 1997 فاز "العمال" في الانتخابات العامة بعد حكم المحافظين نحو "18" عاماً وأصبح رئيساً للوزراء.
بعد أن سقطت بغداد في يد القوات الأنجلوسكسونية في عام 2003، تساقط حلفاء بوش الابن في جميع الانتخابات التي جرت بعد ذلك، تماما مثل أوراق الخريف، أو مثل أوراق "رزنامة" نهاية عام ضجر مثقل بالكوارث، كان، توني بلير زعيما آخر من الزعماء الأوروبيين الذين يدفعون ثمن الارتماء في حضن واشنطن البارد، بعد أن واجه المصير ذاته خوسيه ماريا أزنار في إسبانيا، وسيليفيو بيرلسكوني في إيطاليا. إذ بعد أن بقي في "10 داوننغ ستريت" لنحو عشر سنوات وتولى رئاسة الحكومة لثلاث ولايات متتالية، أجبر على الاستقالة.
بعد ضغوط مكثفة رضخ بلير لدعوات التنحي بعد أن تراجعت شعبيته إلى أدنى مستوياتها، ولا يزال حزب "العمال" الذي تولى بلير رئاسته لنحو 13 عشر عاما يعاني جراء سياسات بلير، وسيبقى ملطخا ببقع سوداء من سلسلة الفضائح التي طالت نائب رئيس الوزراء جون بريسكوت حول علاقته بسكرتيرته، ووزير الداخلية حول اختفاء أثر أكثر من ألف سجين أجنبي سابق بعد مغادرتهم السجن رغم أنه كان يجب ترحليهم.
كانت القشة التي قصمت ظهر البعير، كما تقول العرب، الخسارة الكبيرة التي تعرض لها "العمال" في الانتخابات المحلية، إذ سارع نواب عماليون لجمع التواقيع على عريضة تطالب بلير بالتنحي، وتسليم السلطة لوزير المالية جوردن براون.
ويرى بعض المحللين وغالبية من الرأي العام البريطاني (58%) أن العراق سيبقى أكبر فشل في عهد بلير. و"كما لم يتمكن الرئيس الأميركي الأسبق ريتشارد نيسكون يوما من محو فضيحة وترغيت، فإن بلير قد لا يتمكن يوما من الخروج من ظل العراق". كما ذهب أستاذ التاريخ دومينيك ساندبروك في صحيفة "ذي اوبزرفر".
ورغم أن العراق هو كلمة السر في الإطاحة بمستقبل بلير السياسي، غير أن انحيازه لواشنطن لم يقتصر على العراق فقط، وإنما امتد أيضا للبنان؛ فقد أيد بقوة الولايات المتحدة وتل أبيب في شن الحرب على لبنان في تموز/ يوليو عام 2006، والأمر ذاته في فلسطين وعزل حركة حماس، وذهبت صحيفة "الاندبندنت أون صنداي" إلى أن "أحداث أيلول/ سبتمبر عام 2001 في الولايات المتحدة سجلت نقطة البداية لنهاية وجود بلير في رئاسة الوزارة، كونه أخذ حينها بالانحراف عن الشعب البريطاني وعن حزبه الذي كان ناجحا حتى ذلك الوقت في تجسيد مزاج وقيم البريطانيين".
بالكاد يشهد البريطانيون لبلير على النمو الاقتصادي المتواصل الذي يسجله بلدهم وساهم في إثرائه، وعلى نسبة البطالة المتدنية والإصلاحات الواسعة النطاق التي أدخلها إلى الخدمات العامة. ومع ذلك فهم لم يغفروا له، ربما لسنوات طويلة، زج بلادهم في الحرب على العراق، حيث قتل نحو 150 جنديا بريطانيا. كما يحكمون بقسوة على سياسة بلير الخارجية التي اصطفت تماما على الخط الأميركي، حتى إن الصحافة البريطانية ألصقت ببلير وصف " كلب بوش المدلل".
وقد منحته واشنطن جائزة ترضيه بعد سقوطه حين ضغطت لتعيينه في عام 2007 مبعوثاً دولياً للجنة الرباعية الدولية الخاصة بالسلام بالشرق الأوسط.
وتزايدت في الفترة الأخيرة الانتقادات الموجهة إلى بلير على خلفية أدائه لهذه المهمة في اللجنة الرباعية حتى أن سفراء بريطانيين سابقين في دول شرق أوسطية طالبوا بعزله مشيرين إلى أن أداءه في هذا المنصب "لا يذكر".
وفيما يبدو محاولة يائسة منه للبقاء في دائرة الضوء نشرت صحيفة "الغارديان" على موقعها الإلكتروني خبرا مفاده أن بلير سيؤدي عملا استشاريا لعبدالفتاح السيسي، كجزء من برنامج تموله دولة الإمارات العربية المتحدة، وقالت إن هذا البرنامج "ينطوي على فرص اقتصادية كبيرة جدا" للمعنيين. لكن فريق بلير السياسي وصف الخبر بأنه "سخيف".
بلير يواصل نهجه التبشيري، لكن هذه المرة عبر دعمه لأنظمة انقلبت على "الربيع العربي"، وهو لن يتراجع عن خطه في انتظار الضوء الأخضر أن يأتيه من هذه العاصمة أو تلك، كما أسلفنا أعلاه أنها البرغماتية التي تحكم السلوك وليس الأخلاق والقيم.