التحول الناجح في
العراق نحو الاستقرار يتطلب لامركزية ذات معنى، وخطة منصفة لتوزيع ريع النفط وكثيراً من التنازل من كافة الأطراف.
ليس ضرورياً الغوص في أعماق التاريخ العراقي حتى يفهم المرء طبيعة الأزمة التي يعاني منها البلد اليوم، بل يكفي أن يتأمل المرء في أحداث العقد الأخير من عمر هذه المنظومة الذي يوشك أن يتم قرناً منذ إبرام اتفاقية سايكس بيكو عام 1916.
بعد سبعة وثمانين عاماً من تقطيع تلك الاتفاقية لأوصال الامبراطورية العثمانية دشن احتلال العراق من قبل الولايات المتحدة الأمريكية عام 2003 عهداً جديداً في الشرق الأوسط، حيث أعادت الولايات المتحدة من حيث تدري أو لا تدري تنشيط خطوط التصدعات السياسية في المنطقة.
كان هناك نقطة تحول ثانية بعد ما يسمى بالانتخابات والاستفتاء على الدستور عام 2005، إلا أن النقطة الحرجة التي سبقت الأزمة الحالية تمثلت في انتخابات 7 مارس 2010. حينها تهاوت بنية العراق السياسية، والتي أمكن فرض التماسك عليها بالقوة إلى أن جرت الانتخابات.
أفرزت الانتخابات نمطاً سياسياً إثنياً وطائفياً على حساب البنية السياسية.
كان أمل العراق الوحيد في تجاوز هذا النمط السياسي الإثني والعرقي المفروض عليه هو قائمة العراقية، أول حزب سياسي في تاريخ العراق يمثل التنوع الذي تشهده المنطقة إلى حد كبير.
ورغم أن قائمة العراقية فازت في الانتخابات، إلا أن حكم البلاد انتقل إلى رئيس الوزراء نوري المالكي بفضل خطة استوجبتها العلاقات الأمريكية الإيرانية وحظيت بدعم غير مباشر من الأكراد.
نتيجة لذلك، لم يقتصر الأمر على أن حزباً سياسياً منتخباً حيل بينه وبين حكم البلاد، وإنما لم يعد ثمة معنى لأي انتخابات يمكن أن تجري في العراق.
بعد تلك الانتخابات الكارثية لم يعد ينظر إلى الممارسة السياسية في العراق على أنها نتاج حكومة منتخبة ديمقراطياً، بل على أنها دائرة مغلقة من الحكومات التي تحددها الانتماءات الإثنية والطائفية.
إن النمط السياسي الذي فرض على العراق هو الذي تسبب في المشاكل التي يعاني منها البلد سواء في التعامل مع الأقليات في داخل حدوده أو في التعامل مع جيرانه.
منذ اليوم الذي جاء فيه المالكي إلى السلطة وهو يتحرك تقريباً على محورين رئيسيين، أما الأول فيتمثل في استخدام كل أزمة صغيرة كمبرر لاستخدام الخطاب الطائفي كذخيرة، وأما الثاني فهو تعامله مع كل مشكلة من منطلق أمني.
العراق والأكراد
بسقوط الموصل في أيدي الدولة الإسلامية في يونيو عاد العراق ليحتل الصدارة من جديد في اهتمام المجتمع الدولي. من سخريات القدر أن العراق لم ينل مثل هذا القدر الهائل من الاهتمام حتى حينما كانت تعصف به الأحداث الدامية لعام 2012. لو أن العراق لقي ما يستحقه من الاهتمام حينما كانت حصيلة القتلى فيه قريباً من 5000 شخص في الشهر الواحد لما كان ثمة حاجة للحديث اليوم عن الدولة الإسلامية.
إن الذي مهد الطريق فعلياً لما يجري في العراق اليوم هو النظام السياسي المشوه لعام 2010 والذي وضع نواته الغزو الذي جرى عام 2003. ومع ذلك، يتحمل المسؤولية عن الأحوال الحالية بنفس القدر الذي تتحمله قوات الغزو كل تلك القوى السياسية الفاعلة التي يتهددها الخطر اليوم.
لقد شل الغزو الأمريكي العرب السنة الذين عانوا أيما معاناة إثر سقوط نظام صدام حسين، وكلما طال بهم الأمد وهم يحاولون إنتاج كيان سياسي واضح المعالم كلما وفر ذلك الفرصة الأمام السلفيين المسلحين لشغل الفراغ الحاصل في السلطة.
الطرف الآخر الذي يشترك في تحمل المسؤولية هو حكومة إقليم كردستان العراق. لقد كانت هناك إيجابيات وسلبيات لتحول هذا الإقليم إلى وضع تمتع فيه بالتدريج بمزيد من الاستقلال عن الحكومة المركزية بعد الغزو. بحث الإقليم عن مخرج من حالة الدعة والاسترخاء التي ظل حبيسها خلال السنوات العشر الأخيرة بينما كان يسعى للتوصل إلى تسوية مع الحكومة المركزية.
هذا "الكيان الكردي" الذي برز نتيجة لغزو العراق ونتيجة للانتفاضات الشعبية في سوريا أصبح مصدراً للمخاوف المبالغ فيها ومحطاً للآمال. هذه المخاوف وتلك الآمال، التي تشبه إلى حد كبير المخاوف والآمال التي أعقبت إبرام صفقة سايكس بيكو، سدت الطريق على أي تحليل صحي أو نقاش مفيد للقضية.
أولئك الذين ركنوا إلى المخاوف المبالغ فيها رأوا في كل حدث أو تطور خطوة إضافية باتجاه "الانقسام والانفصال"، وذهبوا بعيداً، أحياناً، لدرجة شيطنة الأكراد.
أما أولئك الذين ركنوا إلى الآمال المبالغ فيها فبادروا إلى تحركات سياسية خارج السياق الزمني المعاصر، فيما يشبه طموحات سايكسوبيكية جديدة لا تمت بصلة إلى الواقع الجيوسياسي لبلاد ما بين النهرين.
تشكل انطباع بأن النظام والحدود التي فرضتها سايكس بيكو حققت مكاسب للأكراد، بينما لم تكن في الحقيقة سوى تجزئة وإضعاف. مثل هذا الانطباع يفشل في إظهار النضح اللازم للتساؤل عما جلبه نظام سايكس بيكو من مكاسب للأطراف غير الكردية في المنطقة.
في الظروف التي يعتبر فيها خسران طرف كما لو كان مكسباً لطرف آخر، فإن التاريخ والسياسة تصبحان أول الضحايا. كل شعوب المنطقة، وبغض النظر عن الكيفية التي رسمت بها الحدود في المنطقة بعد الحرب العالمية الأولى، كانت هي الخاسرة.
إن التخمين بشأن أي أنواع من الصراعات كان يمكن أن تنجم لو أن اتفاقية سايكس بيكو منحت للأكراد دولة قومية خاصة بهم تمرين عقلي مفيد قد يساعد على استيعاب حالة الفوضى التي عمت المنطقة على مدى قرن من الزمان.
ما من شك في أن البعض قد يعتبر التحليل المقدم آنفاً "تبريراً عمره قرن من الزمان" صمم خصيصاً للأكراد. ولكن، من الضرورة بمكان إدراك أنه لا يوجد سوى طريقين للخروج من هذا المأزق: إما أن نقدم تحليلاً موضوعياً بحثاً عن "نظام جديد" تكون كل الجماعات جزءاً منه فاعلاً وحقيقياً، أو نقع فريسة لمسلمات الأمر الواقع القديمة ونجد أنفسنا نتمنى تكرار المصائب التي حلت بنا من قبل.
كل دقيقة تشتد فيها الأزمة في العراق هي دقيقة أخرى تزداد فيها احتمالات تجزئة المنطقة على أسس عرقية وطائفية. ما جذب اهتمام العالم إثر سقوط الموصل لم يكن الأزمة العراقية بقدر ما كان احتمال تفتت العراق.
لا جديد في هذا الأمر. من وجهة نظر الأكراد أصبح الانفصال الحاصل بحكم الأمر الواقع منذ حرب الخليج حالة من الفوضى بعد الغزو خارج السيطرة. بمعنى آخر، لا يعتبر خياراً على الإطلاق أن يفرض على المرء الاختيار بين الحفاظ على الحدود العراقية كما رسمت من قبل سايكس بيكو مع بعض التعديلات الطفيفة وبين تفتيت المنطقة، مع كل ما يحمله كل خيار منهما من تكاليف. لقد تسبب احتلال العراق وما تبعه من سياسات في المنطقة بعد الاحتلال بالإضرار بما يكفي بإمكانية بناء أرضية مشتركة من شأنها أن توفر وحدة سياسية لمختلف الجماعات داخل العراق.
وحدة العراق السياسية
بادئ ذي بدء نحتاج إلى الإجابة على هذا السؤال: ما هي إمكانية تحقيق الوحدة السياسية في العراق؟ لكم تضررت الوحدة السياسية بسبب دستور ما بعد الإطاحة بصدام الذي صاغته على عجل حكومة الاحتلال عام 2005.
لعل أفضل صورة مصغرة لما يعانيه العراق بهذا الشأن هو الاستفتاء الخاص بوضع كركوك والذي يعتبر خطأ تاريخياً. وذلك أن الدستور العراقي التي تم تبنيه في استفتاء جرى يوم الخامس عشر من أكتوبر من عام 2005 احتوى على مادة ألحقت به في اللحظة الأخيرة، هي المادة 140، والتي صيغت بشكل أساسي بهدف حل مشكلة كركوك.
طرح الدستور الجديد للاستفتاء عام 2005، وهو العام الأكثر دموية في ظل الاحتلال، وذلك قبل أن ترقى الظروف السياسية بحكم الأمر الواقع إلى المستوى المقبول من المشاركة والتطبيع. والذي حصل أن الاستفتاء، الذي تميز بمشاركة ضعيفة، كرس النمط العرقي الطائفي الذي فقدت معه السياسة كل معنى بدلاً من أن يكون استفتاء شعبياً دستورياً.
وكانت اللحظة التي صيغت فيها خطة حل النزاع بشأن كركوك هي أيضاً اللحظة التي جعلت مثل هذا الحل أمراً مستحيلاً. وبمجرد أن أضيفت المادة إلى الدستور، ذهب كل طرف يركز كل طافاته على المرحلة الثانية. والنتيجة بوضوح كانت كارثية. فالتزاحم على مكاسب المرحلة الثانية حال دون إنجاز المرحلة الأولى الخاصة بتطبيع المنطقة. لو أنه تسنى إنجاز أي تحسن في قضية كركوك، حتى لو تمثل ذلك في تنازلات أساسية مقبولة لدى كل الأطراف، لما وصلت أزمة العراق إلى وصلت إليه اليوم.
ويمكن أن يقال نفس الشيء حول تشكيل حكومة العراق المركزية، بمعنى آخر، لم يتحقق أي تقدم سواء على المستوى المركزى أو المناطقي. من الواضح أن مرارة الكرد والتركمان والسنة العرب من سايكس بيكو بالإضافة إلى "الجوع السياسي" الذي تضور بسببه الشيعة لقرون، كل ذلك لعب دوراً مهماً في تتابع الأحداث.
ههنا لابد من ملاحظة ثلاث حقائق قاسية فيما يتعلق بوحدة العراق السياسية. أما الأولى فهي أنه لا بد من صياغة دستور جديد ينظم جميع الاختلافات السياسية ويوزع ريع الطاقة، وهو المورد الاقتصادي الوحيد في البلاد.
لن تكون هذه المهمة سهلة. والحقيقة أنه فيما عدا الأكراد المحشورين في عالمهم الخاص بهم عند خط الشمال الموازي لدرجة 36، لا توجد أي جماعات أخرى يمكن أن تستفيد من اللامركزية وتستطيع في نفس الوقت الاستفادة من ريع النفط.
من نافلة القول أن الأكراد وكردستان العراق لديهم نصيبهم من المشاكل الخطيرة في ظل الظروف الحالية. كل من يقيمون خارج إقليم كردستان بحاجة أولاً إلى أن يصبحوا فاعلين حتى يشاركوا في السياسة والاقتصاد. بمعنى آخر، يكفي للتأكيد على حالة الفوضى التي تعج في المنطقة التأمل في الطبيعة المعقدة للإجابة على سؤال: كيف سيشترك العرب (شيعتهم وسنتهم) والتركمان (أيضاً شيعتهم وسنتهم) في الاستفادة من الدخل.
تلك ببساطة هي عواقب الإصرار على إطار سياسي يحدد الوضع بناء على الانتماءات العرقية والطائفية بمعنى آخر، إن الإصرار على
التقسيم السياسي للعراق الذي يعيش حالة من الانقسام الفعلي حالياً يرقى إلى طلب المستحيل.
أما العامل الثاني فهو قضية كركوك. يوجد كم من الأدبيات الخاصة بقضية كركوك والتي ينبغي أن تؤخذ على محمل الجد. بعد الأحداث في الموصل، لن يؤدي تقييم الأمر كما حصل وقيم بعد الاحتلال عام 2003 إلا إلى كارثة.
ينبغي التوصل إلى حل بشأن كركوك في أسرع وقت ممكن ويصبح ذلك أمراً واقعاً. وينبغي أن يبين وبكل وضوح أن كركوك ليست قضية يمكن أن يحمل عبئها على كاهله الأكراد وحدهم أو أي أقلية أخرى وحدها. وبنفس الطريقة، إذا ما قيمت كركوك على أنها قضية أو منطقة مستقلة عن العراق بينما من الواضح أنها تتأثر بشكل مباشر بأي أزمة يعاني منها العراق فإن ذلك يمكن أن يخلق مشاكل على المدى البعيد. وقد جربت هذه المقاربة وفشلت فيما بعد عام 2005.
ووضع كركوك تحت سيطرة حكومة إقليم كردستان سيولد مجموعة أخرى من النقاشات. ينبغي تذكر أن موصل يمكن أن تلعب دوراً مهماً في هذه النقاشات. بمعنى آخر، ليس خياراً وضع كركوك والموصل تحت سيطرة حكومة إقليم كردستان لا سياسياً ولا سكانياً كجزء من مشروع دولة قومية قد تنشأ فيما بعد.
ستكون المحصلة النهائية لمثل هذا الإجراء لا شيء أكثر من فترة حكم أخرى للمالكي في شمال العراق. والسبب الأساس وراء ذلك هو استحالة أن يرضى السكان العرب والتركمان بالعيش في ظل حكومة كردية.
القضية السنية
والعامل الثالث هو القضية الأكبر سواء في المنطقة أو في تركيا – من خلال العراق، إنها الأزمة السنية.
أصبحت قضية السنة العرب أولوية بعد احتلال العراق. إنها القضية التي تسببت في ظهور منظمات لا تنتمي إلى الواقع العراقي مثل تنظيم الدولة الإسلامية.
إن فقدان العرب لحيز معيشتهم وللسلطة هو الذي غذى المشاهد البدائية التي نراها في العراق. وما لم يتم الاستجابة لبعض مطالب السنة في العراق فلا مفر من أن تتماهى القضية السنية مع الأزمة السورية.
مع أنه فات الأوان ولم يعد بالإمكان إرجاع هذه العملية إلى الوراء إلا أنه مازال بالإمكان ضبطها. وأهم مسألة في هذه الحالة هي ما إذا كانت إيران قادرة على ممارسة الحكمة أم لا. حتى الآن، رؤية إيران، والتي لم تتجاوز إبقاء المالكي في السلطة في العراق وإبقاء الأسد في السلطة في سوريا، لم تنتج سوى الفوضى.
هذا الوضع، والذي لا يخدم مصالح إيران على المدى البعيد في أي من البلدين، ما هو إلا عمى ناجم عن السياسة الطائفية.
من الواضح أن تركيا ستستمر في مواجهة المشكلة السنية كل حين، وخاصة أن توقعات السنة من تركيا، التي يرونها حلاً لمشاكلهم على مختلف المستويات، ارتفعت بشكل كبير بعد عام 2010.
إن المخرج الوحيد أمام تركيا هو إيجاد حل يمكن أن يحقق مختلف التوقعات لدى مختلف الجماعات السنية. لابد من الإشارة هنا أن السنة يشملون العرب والتركمان وبعض الأكراد.
فيما أن الهوية السنية هي الهوية الأولى للعرب، الهوية العرقية بالنسبة للأكراد والتركمان تأتي في المرتبة الأولى، ومن الواضح أنه لا توجد هوية سنية مشتركة تجمع بين هذه المكونات الثلاث، وهذا بالضبط ما كنت أتكلم عنه حينما أشرت إلى الأزمة العرقية الطائفية في العراق.
إذا أردنا أن نتكلم من وجهة نظر حل النزاعات، فإن الطريقة الوحيدة للخروج من المأزق الحالي هي أن تجد الأطراف المتنازعة أرضية مشتركة تقف عليها. إذا ما تمكنت الجماعات السنية من تخفيف غلواء خلافاتها ونزاعاتها الداخلية فإن النزاع الشيعي السني سيتضاءل بكل تأكيد.
تساهم تنظيمات مثل الدولة الإسلامية في إلحاق الضرر بالثقة الهشة التي تحققت بين الأطراف المختلفة بنفس القدر الذي تلحقها بها إدارة المالكي من ضرر. والسماح للمالكي بالاستمرار في حكم عراق بات بحكم الأمر الواقع مفتتاً إنما يولد مزيداً من الفوضى التي تصدر من بغداد. وإذا استمر ذلك، فلن يطول الزمن قبل أن يتكرر نفس السيناريو الذي نجم عن تقديم الدعم السلبي لبشار الأسد.
أول ما ينبغي فعله في العراق هو بذل جهد لإنقاذ حكومة بغداد المركزية. والحقيقة أنه ما لم يسد نوع من النظام في بغداد فسيكون إيجاد حل لكركوك أو كردستان أقرب إلى المستحيل.
لعل حل بعض المشكلات التي تسببت بها بغداد يتيح الحيز الضروري لمناقشة إمكانيات التوصل إلى السلام في كل بغداد. ولذلك، لا مفر من أن تسلم حكومة المالكي التي جاءت إلى السلطة في عام 2006 السلطة إلى حكومة انتقالية، وينبغي أن يكون ذلك شرطاً أساسياً للحيلولة دون أن تتكرر في العراق حالة الفوضى العارمة التي جلبها الأسد على سوريا.
هل "ما بعد سايكس بيكو" وارد؟
لن يكون من الإنصاف تقع أن تتمكن أي حكومة انتقالية في العراق من حل جميع النزاعات مرة واحدة. في ظل ظروف يسيطر فيها كل طرف من أطراف النزع على منطقته، لابد من تحديد نوع الانتقال المطلوب بشكل لا لبس فيه.
لابد من التذكر بأن أصعب السيناريوهات إنجازاً في العراق تلك المشاريع التي تعتمد على قيام "دولة قومية" عرقية أو طائفية. كما لابد من التذكر أيضاً أن سيناريوهات الانفصال كلما تكررت فإن الأزمة في العراق تشتعل من جديد، وهذه تترجم في أرض الواقع إلى نزاع سياسي اقتصادي شديد وإلى الكثير من سفك الدماء.
بمعني آخر، لن يكون بوسع أي من الأطراف الفاعلة في المنطقة رسم حدود سايكس بيكو جديدة يمكن أن تكون مقبولة لدى الجميع. ما لم يتضمن الحل المقترح لإخراج المنطقة من الفوضى الحالية خطة لما بعد سايكس بيكو فإن عملية الانتقال ستطول وسينجم عنها المزيد من الفوضى.
عملية الانتقال الناجحة في العراق يمكن أن تحصل فقط حينما يخف نفوذ بغداد على العراق وحينما يتم تنفيذ نظام إدارة لا مركزي تصاحبه خطة لتوزيع موارد النفط بشكل يرضي كافة الأطراف.
النفط هو الحراك الوحيد الذي يتواجد في كافة أنحاء العراق اليوم. وبناء عليه فإن أي انتقال ينبغي أن يبدأ بتطوير خطة لتوزيع موارده بشكل عادل.
أمن التوزيع قضية أخرى على درجة عالية من الأهمية. كارثة المالكي فيما يتعلق بهذه القضية هي التي أعادت العراق فعلياً إلى العام 2003. فالمالكي، ومن خلال اتباعه لخطة بريمر الكارثية الخاصة بالعسكر وبالحكومة، وما صاحب ذلك من تدخلاته الطائفية، ساهم في خلق مؤسسة عسكرية عصية على الإدارة.
التداعيات الدموية لهذا الوضع، والذي أصبح واضحاً بشكل مؤلم في الموصل، رأيناها لأول مرة في عام 2012. عند هذه النقطة بات في غاية الصعوبة على الجيش أن يفرض الاستقرار في المناطق السنية في العراق أو حتى أن يتواجد ككيان في أي مكان في شمال العراق. وهذا بالضبط ما سهل على تنظيمات مثل الدولة الإسلامية ملأ الفراغ في السلطة. لا بد من إقامة بناء عسكري إلى الشمال من بغداد يكون مقبولاً لدى السنة العرب والأكراد والتركمان.
وأخيراً، وعلى العكس مما هو سائد، لن يكون إعلان الاستقلال من قبل حكومة إقليم كردستان في هذا الوقت خياراً يسهل التعامل معه سواء في العراق أو في المنطقة. بل إن السيناريو الذي يشهد قيام دولة قومية في وقت متأخر ذات طبيعة عرقية تكون كركوك جزءاً منها بات احتمالاً ضعيفاً.
وبهذا الشكل، فإن أي إطار انتقالي يشتمل على السنة العرب وأتراك شمال العراق (أما التركمان الشيعة فينبغي أن يعاملوا على أنهم قضية مختلفة تماماً في هذا الصدد) ينبغي أن يركز على مزيد من الاستقرار بدلاً من إعلان قيام دولة جديدة. مالم يخطط الأكراد لمستقبلهم، على الأقل على المدى القريب، مع العرب السنة والتركمان فإنهم سيواجهون أخطاراً حسيمة.
حينما تؤخذ كل هذه الحراكات المعقدة والطبيعة المأساوية بعين الاعتبار فإن حلاً تعتمد من خلاله الأطراف المناطقية على تركيا يبدو سيناريو معقولاً. ولكن، من وجهة نظر تركيا، سيكون ذلك مهماً من الناحية الاستراتيجية فقط فيما لو وافق الأكراد على تنازل يشمل العرب السنة والتركمان. وإلا، فإن أي مبادرة من هذا النوع ستبقى توجهاً قصير المدى لا يعد بالسلام ولا بالاستقرار.
هل يمكن تقسيم العراق؟
فكرة أن الحدود الجديدة يمكن أن تحل أي أزمة ليست حالة مرضية ذات علاقة بسايكس بيكو فحسب وإنما لا تمت بأي صلة لواقع السياسة. وجود خطوط تصدعات عرقية طائفية لا يقدم لنا في الحقيقة أي تصور عما سيكون عليه مشهد الانفصال.
هل من الممكن حقيقة الكلام عن مشهد سياسي يقوم على الكيانات العرقية والطائفية؟ فتكرار المساحات الجغرافية التي تقطنها جماعات مختلفة لا يقدم لنا في الحقيقة توزيعاً اقتصادياً وسياسياً دقيقاً للمنطقة.
من أجل إنجاز سيناريو انفصال في العراق، لابد من الآتي: 1) حدود جديدة رسمها يكاد يكون مستحيلاً. 2) الإقليمان الطائفيان والإقليم العرقي التي تنجم بحاجة لأن تحكم. 3) إيجاد خطة عادلة لتوزيع موارد النفط الذي تعتمد عليه كافة الأطراف. 4) إنشاء كيان عسكري يؤمن الحدود وخطة توزيع موارد النفط.
يمكن للنقاش حول الفصل الجيوسياسي في العراق أن يحدث فقط فيما لو توفر الحد الأدنى من شروط هذه المتطلبات. والحقيقة أن شيئاً أكبر من ذلك بكثير يجدر الانتباه إليه، وهو أنه حتى يكون هناك انفصال فلا بد من وجود أطراف يحصل الانفصال فيما بينها وتقوم هي نفسها بالانفصال.
أي أن ثمة حاجة إلى كيانات يمكن أن تتمايز فيما بينها. مثلاً، من هو العربي السني؟ وبنفس الطريقة من هو العربي الشيعي؟ بالإضافة إلى ذلك، كيف يرى الأكراد إقليماً نسبة العرب والتركمان فيه تزيد عن نسبة الأكراد في تركيا يمكن أن يحكم في ظل "دولة قومية كردية"؟
من الضروري إعداد فترة انتقالية في العراق تستمر لسنوات طويلة قادمة. إما أن تشتد الفوضى بسبب اختراع حلف سايكس بيكو جديد أو يتم تنفيذ سيناريو يقلص فيه دور بغداد في النظام السياسي وتتعزز فيه رؤية مستقبلية لتحقيق توزيع عادل لموارد النفط.
حتى يتحقق ذلك فإن السنة العرب بحاجة إلى بعض الكردنة، والأكراد بحاجة إلى بعض التسنن وبعض التركمنة. لا يشكل السنة الأكراد ولا السنة التركمان ولا السنة العرب لا يشكلون مجموعة سنية أكبر في العراق. ولا يبدو أن ذلك سيكون ممكناً في المستقبل. والحقيقة أن إحدى الوسائل التي من خلالها يمكن للفوضى أن تشتد في عراق غير مقسم هي أن تفشل الأطراف السنية في إبداء رغبتها في مستقبل مشترك.
وإلا، فإن كل منطقة "يتم إنقاذها" ستنقل أزمة بغداد الحالية إلى "منطقتها المستقلة" الخاصة بها.