انتقل نظام
الحكم في التجربة التاريخية الإسلامية، من نسق الخلافة على منهاج النبوة، إلى نسق الملك العضوض، بعد أن حوله معاوية بن أبي سفيان إلى ملك وراثي، أخذ فيه البيعة لابنه يزيد في حياته، وقد لاقى ذلك التحول معارضة شديدة من صحابة كرام رأوا فيه نمطا مستحدثا ليس لهم به عهد فيما عرفوه وألفوه في العهد النبوي والخلافة الراشدة، حمل أحدهم على استنكاره بقوله "أكسروية وقيصرية بعد رسول الله؟".
دَاخل ذاك النمط الوراثي في العقود اللاحقة، ما أطلق عليه الفقهاء اسم "ولاية المتغلب"، التي يشرح صورتها الفقيه الحنبلي ابن قدامة المقدسي بقوله: "ولو خرج رجل على الإمام فقهره وغلب الناس بسيفه حتى أقروا له وأذعنوا لطاعته وتابعوه، صار إماما يحرم قتاله والخروج عليه" ممثلا لذلك بما فعله عبد الملك بن مروان من خروجه على ابن الزبير "فقتله واستولى على البلاد وأهلها حتى بايعوه طوعا وكرها، فصار إماما يحرم الخروج عليه".
استقرت تلك الأنساق في الحكم (ولاية العهد، وتوريث الحكم، وولاية المتغلب) عبر الممارسة السياسية الإسلامية، وغدت أنماطا شرعية مقبولة تحت ضغوط الواقع وإكراهاته، احتضنتها فيما بعد "
الأحكام السلطانية" وقدمت لها تخريجات فقهية بحكم الاضطرار لا الاختيار، كتلك المقولة المشهورة "سلطان غشوم خير من فتنة تدوم" لكن ما كان حالة استثنائية اضطرارية بات أصلا ثابتا صبغ التجربة الإسلامية برمتها ممتدا إلى واقع المسلمين المعاصر.
أمام ذلك التحول في أنماط الحكم، من خلافة على منهاج النبوة إلى ملك عضوض إلى جبري متغلب، كيف تقبل الفقيه ذلك التحول مضفيا على تلك الأنساق المستحدثة شرعية دينية؟ وهل كان الفقيه حرا يمارس دوره الاجتهادي باستقلالية تامة أم أن ظروف الواقع وإكراهاته اضطرته إلى مثل تلك الاستنباطات الفقهية؟ ولماذا تحول الاستثناء بحكم الضرورة والاضطرار إلى أصل ثابت دائم صبع حياة المسلمين وبات حاكما لها؟ وكيف وظفت أنظمة الاستبداد التي أقصت الشريعة عن واقع المسلمين تلك الأحكام السلطانية في معركة الشرعية والمشروعية؟ وبأي وجه من وجوه الاستدلال باتت ولاية المتغلب متحققة في أنظمة الفساد والاستبداد المعاصرة؟
الفقيه كان واقعيا ومستقلا في إنتاج الأحكام السلطانية
في شرحه لطبيعة عمل الفقيه المنتج لجملة الأحكام المتداولة في منظومة "الأحكام السلطانية"، أوضح الدكتور علي الصوا أستاذ الفقه وأصوله في الجامعة الأردنية أن الفقيه (أي فقيه) حينما يجتهد لزمانه فإنه يأخذ باعتباره ظروف عصره، لأن الأحكام الشرعية ليست تجريدية، بمعنى أنها ليست مجردة عن الواقع، إنما هي أحكام تعالج الواقع بكل ما فيه.
وعليه ووفقا لشرح الدكتور الصوا فإن الفقهاء الذين صاغوا النظريات السياسية في ذاك الوقت تأثروا بظروفهم، وبالتالي فإن اجتهاداتهم جاءت متأثرة بذلك الواقع، وهي ليست كلها مقبولة بل محل بحث ونظر، وفيما يخص ولاية المتغلب فإن جمهور أهل السنة كانوا يأخذون بها، لكنهم وضعوا لذلك شروطا، بأن يلتزم المتغلب بتطبيق شرع الله وإقامة العدل في الناس، حينها فإن الفقهاء يغضون الطرف عن طريقة وصوله للحكم وانعقاد شرعيته عبر التغلب.
لكن إن كان الفقيه قد اضطر للقول بشرعية ولاية المتغلب بحكم الضرورة، ألم يكن بوسعه بعد استقرار الأمر أن يدعو الحاكم المتغلب إلى إعادة الأمور إلى نصابها كما كانت عليه في عهد الخلفاء الراشدين؟ اعتبر الدكتور الصوا أن ذلك من إشكاليات الفقيه في ذلك الزمان، مشيرا إلى أن الأحكام السلطانية دونت في القرنين الخامس والسادس الهجريين، وهو عصر بداية زوال الاجتهاد، وركود
الفقه الإسلامي، الذي تأثر بالواقع واستوحى منه.
لماذا اتسم سلوك الفقيه بالسكوت عن تلك الأوضاع المستحدثة؟ وما هي مبررات قبوله بها؟ أرجع الدكتور الصوا في حديثه لـ "عربي 21" سكوت الفقهاء عن تلك الأوضاع وقبولهم بها إلى أنهم رأوا في ولاية المتغلب بديلا عن الفتن، وإراقة الدماء، وطلبا للأمن والاستقرار، مؤكدا أن الفقهاء كانوا يقررون تلك الأحكام بحرية كاملة، واستقلالية تامة، ولم يخضعوا للخلفاء والأمراء في إنتاجهم للأحكام السلطانية، وإن كان تفكيرهم واقعيا يتناسب مع زمانهم ويأخذ بالاعتبار شروطه وظروفه القائمة.
شرعية ولاية المتغلب ليست خاصة بالفكر السلفي
من جهته رأى أستاذ الفقه وأصوله في جامعة أم القرى بمكة المكرمة، الدكتور محمد السعيدي، أن وجوب طاعة المتغلب ثبت بالقياس الجلي، والمعروف بقياس الأولى، وتعريفه عند الأصوليين هو (أن يكون المسكوت عنه أولى بالحكم من المنطوق)، فإذا كان تحريم الخروج على الحاكم ورد لعلة الحفاظ على الضرورات والحاجات والتحسينات أو المحافظة على أكبر قدر منها، فطاعة المتغلب أولى بالحكم من تحريم الخروج، لأن عدم الطاعة المتغلب يغلب عليها من فوات الضرورات والحاجات والتحسينات أعظم مما ينتج عن الخروج.
واعترض السعيدي في حديثه لـ "عربي 21" على من يقولون أن القول بولاية المتغلب ووجوب طاعته خاصة بالفكر السلفي، كما يتم الترويج له هذه الأيام بقصد الإساءة للسلفية، مبينا أن ولاية المتغلب واجبة الطاعة عند الأشاعرة وعند المعتزلة وعند الزيدية أيضا، وهي الفرق التي توصف خطأ بالعقلية على حد قول السعيدي، لكن المعتزلة والزيدية يوجبون الخروج أيضا وهم بذلك يقعون في تناقض لا يمكن حله لا نقلا ولا عقلا، والزيدية يشترطون في المتغلب أن يكون علويا، أما الأشاعرة فهم في هذه الجزئية مثل السلفية إلا أن السلفية تنطلق من منطلق مصلحي، والأشاعرة لهم منطلقهم الجبري، بحسب شرح الدكتور السعيدي.
ودافع أستاذ الفقه وأصوله في جامعة أم القرى عن رؤية السلفيين وموقفهم بوصفه لهم أنهم مطردون في منهجهم النصي، فكما أنهم يلتزمون النصوص في العقائد والعبادات فهم يلتزمون النصوص في المنهيات والواجبات في مسائل السياسة والمال والأخلاق والآداب، وهم يلتزمون ما ثبت بالنصوص متواترة المعنى من لزوم الجماعة ووجوب طاعة
ولي الأمر وتحريم الخروج عليه.
وانتقد الذين يشنعون على السلفيين في تبنيهم لمبدأ طاعة ولي الأمر وتحريم الخروج عليه، بأن أولئك الناقدين المشنعين لا يقدمون تجربة تثبت عكس ما يشرحه السلفيون من حِكَم الالتزام بالشرع، بل قد أثبتت التجارب أن الخروج أو التمرد على المتغلب لا يأتي إلا بما هو شر. كما أن المشنعين على السلفيين بحسب الدكتور السعيدي لا يريدون أن يطلعوا على ما يقدمه السلفيون من بدائل لو توجهت همة المصلحين لتحقيقها لجنى الجميع من ذلك خيرا كبيرا.
أنساق حكم مستحدثه ولا بد من الرجوع إلى أصول الدين المنزل
في السياق ذاته رأى الداعية والباحث الإسلامي عبد الفتاح عمر أن الفقهاء حينما دونوا الأحكام السلطانية لم يمارسوا اجتهاداتهم الفقهية باستقلالية تامة، بل كانوا متأثرين بواقعهم الذي عاشوا فيه، وجاء إنتاجهم الفقهي في كثير من مسائله وأحكامه متأثرا بضغط الواقع ومستجداته، إذ كيف يمكن للفقيه أن يقبل بأنظمة حكم جائرة وظالمة، مضفيا عليها الشرعية ممثلا بعهد عبد الملك بن مروان وغيره؟.
وانتقد عبد الفتاح عمر في رده على أسئلة "عربي 21" جملة الأحكام المدونة في منظومة الأحكام السلطانية، كولاية المتغلب، وولاية العهد، وتوريث الحكم، مؤكدا أنها ليست من أصول الدين المنزل، ولا وجود لها في العهد النبوي، ولا في الخلافة الراشدة، وإنما اضطر الفقهاء للقول بها تحت ضغط الواقع ومستجداته، وتساءل كيف يمكن للعقل الفقهي السلفي الذي يرفض الابتداع في الدين ويشنع على المبتدعين أن يتقبل كل تلك المستحدثات في باب السياسة، والأدهى من ذلك أن تصبح هي الأصل الذي توارثه المسلمون إلى زماننا هذا؟.
ونبه الباحث الإسلامي عمر إلى أن الفقهاء حينما قبلوا بولاية المتغلب، فإنهم اشترطوا أن تتوافر فيه شروط الولاية، وعلى رأسها أن يكون قائما بتطبيق الشريعة وقائدا للأمة بكتاب الله، أما إن كان المتغلب معطلا للشريعة وأحكامها ولا يقيم العدل في الناس، فكيف يصح إنزال ولاية المتغلب عليه؟ فهو متغلب بحكم الواقع ولا علاقة لولاية المتغلب التي تحدث عنها الفقهاء به لا من قريب ولا من بعيد.
وحول مدى توظيف الأنظمة السياسية لتلك الأحكام السلطانية في ترسيخ شرعيتها، أوضح عبد الفتاح عمر أن كثيرا من الأنظمة تصرح بأنها علمانية وهي ليست حريصة على استمداد شرعيتها من الأحكام السلطانية، لكن ثمة أنظمة تسعى للظهور بمظهر الأنظمة الإسلامية، وهي حريصة على إضفاء شرعية دينية على وجودها، لذا فهي تتمسك بنظرية طاعة ولي الأمر وتحريم الخروج عليه.
وانتقد الباحث الإسلامي عمر بشدة سلوك بعض الاتجاهات والشخصيات التي وصفت النظام المصري بعد الانقلاب على الرئيس المنتخب بأنه يطابق وصف ولاية المتغلب، الذي يجب طاعته ويحرم الخروج عليه، ووصف أولئك بأنهم إما أغبياء لا يدركون ما الذي يجري حولهم، أو إنهم ضالعون في تنفيذ مخططات مرسومة لهم، داعيا إلى التحرر من إرث الأحكام السلطانية والعودة إلى ما كان عليه الأمر في أصول الدين المنزل في العهد النبوي، والخلافة الراشدة بأن تمارس الأمة حقها في اختيار من يحكمها برضا وبيعة بعيدا عن القهر والتغلب، وولاية العهد، وكل أشكال توريث الحكم.